رياض الزهراء العدد 174 الحشد المقدس
سِياحةُ الحَشدِ
يظنّ البعض بأنّ السياحة هي السفر إلى البلدان للتنزّه وطلبًا للمتعة، وشاعت في زماننا السياحة بكلّ أنواعها، منها العلاجيّة والدينيّة والثقافيّة وغيرها، وهي مصداق من مصاديقها؛ لأنّ السياحة في القرآن الكريم تحمل عدّة معانٍ، قال الله تعالى: (الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ) )التوبة: ١١٢). السياحة لغةً: الذهاب إلى الأرض للعبادة والترهّب، ساح في الأرض، وسيحًا، يسيح سياحةً، وسيوحًا(1). ذكر المفسّرون عدّة آراء في تفسير كلمة (السائحون)، منها: ١- الغزاة والمجاهدون. ٢- الصائمون. ٣- طلبة العلم. ٤- السائحون: الجائلون بأفكارهم في ملكوت الله ومخلوقاته، والعلامات الدالّة على توحيده. ولو تدبّرنا في هذه المعاني، لاحظنا أنّها تشترك في المعنى من حيث إنّ المجاهدين يسيرون في الأرض للدفاع عن أرضهم، تاركين زخارف الدنيا ومتاعها طلبًا للجهاد، والصائم يستمرّ في الإمساك عن الطعام، ويمتنع عن الشهوات طلبًا لجنّة الريان، وطالب العلم يسيح في البلدان ويترك الأهل والخلّان طلبًا للعلم وجهادًا للنفس، والمتفكّرون في خلق الله معرضون عن التفكير في الدنيا، منشغلون بتوحيد الله تعالى، والآية الكريمة جمعت كلّ هذه الصفات في المؤمنين العابدين المجاهدين، فالمؤمن لا بدّ من أن يكون طالبًا للعلم وعارفًا بالله، حتّى يكون مجاهدًا، فكلّ هؤلاء يشتركون في هدف واحد هو الوصول إلى رضوان الله الأكبر، وهم السائحون العابدون، والمجاهد هو طالب العلم الصائم العابد الباذل نفسه في سبيل دينه؛ لأنّ من آثار الجهاد ترويض النفس وتهذيبها، وصقلها بالمعارف والصفات الأخلاقيّة، وقد رُوي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "وإنّ سياحة أمّتي ورهبانيّتهم الجهاد"(٢). والسياحة من أعظم أعمال أمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله)؛ لأنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة فتحه الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجُنّته الوثيقة، فضّله الله على الأعمال وفضّل عامله على العمّال تفضيلًا في الدرجات والمغفرة، وبه ظهر الدين وحُفِظ الإسلام، وبه اشترى الله من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنّة، وهو سياحة أمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) التي جعل الله عزّها بسنابك خيلها ومراكز رماحها، هذا ما نطقت به روايات أهل البيت (عليهم السلام)، وللجهاد ميادينه، منها القتال المسلّح، وهناك الجهاد في الميدان السياسيّ والعلميّ والأخلاقيّ، وليس المعيار الجهاد بالسلاح في ساحات القتال، إنّما المعيار هو الكفاح، ولا بدّ للكفاح من أمرين لازمين، أحدهما أن يكون فيه جدّ وحركة، والثاني أن يكون في مواجهة الأعداء، فقد قال تعالى: (فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) (الفرقان: ٥٢). نزلت هذه الآية الكريمة في مكّة المكرّمة قبل تشريع القتال ضدّ الكفّار، وما خلص إليه العلّامة (الطبرسيّ) من قيد (جهادًا كبيرًا) هو أنّ الجهاد الثقافيّ والردّ على الشبهات وأعداء الدين، هو أثمن أنواع الجهاد عند الله وأعظمها، وحشدنا المقدّس قاتل في كلّ ميادين الجهاد، ووقف بقوّة للدفاع عن الدين بطاعته للمرجعيّة العليا في ردّ كيد الأعداء، وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل أن يكونوا من السائحين العابدين، رهبانًا بالليل وليوثًا بالنهار، فكان دفاعهم جهادًا كبيرًا في زمن الفتن والفساد والحروب بكلّ أنواعها التي جعلت الناس تفقد الأمل في حياة عزيزة، فبرز فتية آمنوا بالله فزادهم الله هدىً؛ ليسيحوا في الأرض ويطردوا الغربان من شرق البلاد وغربها، ويحرّروا النساء والولدان من السبي والخذلان، ويرفعوا رايات نصر صاحب العصر والزمان (عجّل الله فرجه الشريف). .................................................. (1) مختار الصحاح: ص50. (2) مستدرك الوسائل: ج١٦، ص38.