ثُلوجُ ديسَمْبر

نور الزهراء الربيعي/ مدرسة نازك الملائكة للمتميزات
عدد المشاهدات : 191

في داخلي لوحة احترقت، وأحلام تناثرت، وكلام صامت، يدوّي في أذني صرير أرجوحة مهجورة في الخريف، تركها أطفالها بعد أن أصبحوا جنودًا، فواحد ترك قبّعة تخرّجه، وآخر ترك وشاحًا أزرق كأحلامه مربوطًا بإحدى سلاسلها، وبعد سنين الحرب القاتلة يعود ذلك الجنديّ المرهق من الحرب ليترك عليها سلاحًا ووردةً صفراء سقَتها دماء أصدقائه، لقد رحلوا جميعًا، وذلك الجسر الخشبيّ القديم المتدلّي فوق ذلك النهر لم أعد أخشى السقوط منه، تجمّد الحبر المنثور على ذاكرة السنين، أسير في تلك الشوارع والريح الباردة تحرّك الأغصان لإسقاط آخر ورقة من على الشجرة، أمّ توقد الشموع في وضح النهار، أب محني الظهرِ كهلال آخر الشهر، أطفال نُزِعت منهم البراءة وسرت الحرب في دمائهم، تغيّر العالم بأكمله، أجلس يوميًا عند الباب، أحدّق في النجوم، أنتظر أن تزهر حديقة منزلي التي دمّرها القصف، ولن تزهر أبدًا، أنتظر أن يمرّ الأمل ويصافحني، الساعة تحنّطت عقاربها، وصوت دقّات قلبي أصبحت واضحة لشدّة الصمت الذي عمّ في داخلي، حدث ذات يوم عندما كنتُ عائدًا إلى المنزل وكان الظلام قد حلّ إذ تلبّدت السماء بالغيوم، وبدأ المطر بالانهمار بشدّة في أثناء عبوري على الجسر المتأرجح، لم أحاول الركض، ولم أفتح مظلّتي على الرغم من حملي لها، كنتُ أسير ببرود تامّ، لم أرتدِ معطفي أو أعد لفّ وشاحي الرماديّ الذي تداخل معه اللون الأحمر، ولم أقرّر وضع قبّعتي السوداء على رأسي، خالطت قطرات المطر دموعي التي سقطت بدون أن يظهر على وجهي أيّ تعبير، أصبحتُ باردًا كثلج ديسمبر، وصلتُ إلى البيت، أعدتُ ما كان في يدي إلى مكانه، وخرجتُ كعادتي إلى الحديقة لأنتظر ما لا أعرفه عن المنتظَر، سقطت تلك القطرة على يدي، دخلتُ إلى البيت مسرعًا على غير عادتي، وضعتُها على اللوحة البيضاء التي لا أعرف ما أرسم عليها، فتحوّلت اللوحة إلى فضاء رائع وشعرتُ كأنّ نجمة حملتني إلى أحد الكواكب، رأيتُ جميع أصدقائي هناك، سألتُهم: لِمَ لم تأخذوني معكم؟ قالوا: ومَن سيروي للعالم عنّا؟ أنتَ سفير شهداء الحرب للعالم؛ لتخبرهم أنّنا ضحّينا لأجل الكرامة والسلام، استيقظتُ من ذلك الحلم، وبدا لي أنّي قد أصبتُ بالبرد وارتفعت حرارتي، فأُغمي عليّ في تلك الليلة، وعندما فتحتُ عينيّ حاولتُ تمييز ذلك الرجل الذي اعتنى بي، كان والدي الذي ظننتُه قُتل في الحرب، ولكنّه كان أسيرًا وأُطلق سراحه، ووصل إلى البيت في تلك الليلة، حسنًا، إذًا كان هو الأمل الذي انتظرتُه طوال تلك السنين، لقد هدأ الصقيع في داخلي، عاودتُ الضحك والكلام، عادت حياتي مثلما هي، أبي هو ما أعيش لأجله الآن، فنحن نتبادل الحديث مع بعضنا ونضحك معًا، فما طعم الحياة بلا أبي؟ كأنّي جسد بلا روح.