(بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ)(1)

نرجس مهدي/ كربلاء المقدسة
عدد المشاهدات : 172

الثامن من ربيع الأول سنة (٢٦٠) هجريّة كان يومًا استثنائيًّا، توشّحت أرض سامرّاء بالسواد، وأُعلن فيها الحداد، لقد قضى إمامنا العسكريّ (عليه السلام) نحبه بعد أن عانى ألم السمّ الذي سرى في جسده الطاهر، لقد رحل إلى ربّه بعد أن أودع أسرار الإمامة إلى ولده المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) وهو ابن خمس سنين. ولأنّ الأرض لا تخلو من حجّة، فقد أُوكلت إليه قيادة الأمّة. وليس عجيبًا أن توكل مهمّة كهذه إلى نبيّ أو إمام وهو في عمر صغير، فقد صرّح القرآن الكريم بقوله تعالى: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) (مريم: 12)، وإمامنا الجواد (عليه السلام) استلم مواريث الأنبياء والإمامة بعد شهادة أبيه الإمام عليّ بن موسى الرضا (عليهما السلام) وهو ابن سبع سنين. والشيعة تنتظر مَن يصلّي على الإمام العسكريّ (عليه السلام)، ويلي أمره وهو مسجّىً في بيته؛ لأنّهم يعلمون جيّدًا بأنّه لا يلي أمر الإمام إلّا الإمام، وأغلب الشيعة وعامّتهم لم يكن لهم علم بولادة الإمام الثاني عشر؛ لأنّ الإمام الحسن العسكريّ (عليه السلام)، كان قد أخفى أمر ولادته عن العامّة وأطلع الخاصّة منهم فقط، وذلك لخطورة الوضع السياسيّ آنذاك، فقد عاش مولانا العسكريّ (عليه السلام) حصارًا من قِبل السلطة العباسيّة الجائرة، وإقامة جبريّة في مدينة (العسكر) ليكون تحت أنظارهم، فقد كان ـ سلام الله عليه ـ حبيس داره، ممنوعًا من لقاء شيعته. حانت الساعة، ومولانا العسكريّ (عليه السلام) لا بدّ من أن يُلحد في قبره الشريف، تقدّم جعفر أخو الإمام العسكريّ (عليه السلام) ليصلّي على أخيه، فما إن استقام للصلاة حتّى أحسّ بجذبة ثوبه من فتىً خماسيّ كفلقة القمر، وهو يقول له: تأخّر يا عمّ، فإنّي أحقّ بالصلاة على أبي، وقد أربد وجهه واصفرّ(1). وهنا أدرك الناس بأنّ الإمام بعد العسكريّ (عليه السلام) هو ولده، فكانت هذه أولى المهامّ في الصلاة على والده في داره قبل إخراج جسده الطاهر إلى الصلاة الرسميّة التي خطّطت لها السلطة الجائرة، وكان ذلك أمرًا مهمًّا في إثبات إمامته (سلام الله عليه). نعم، فلا يستغربنّ أحد من الإفاضة الربانيّة على شخص الإمام وهو صغير في السنّ، فهو أمر بديهيّ في سيرة الأئمة (عليهم السلام)، ولا شكّ ولاريب في أنّ الإمام المهديّ (عجّل الله فرجه الشريف)، هو حجّة الله في الأرض، ومعنى الحجّة هو الالتزام بأقواله وأوامره والعمل بها، فهو (عليه السلام) واسطة الفيوضات الإلهيّة، والنعم غير المتناهية، الدنيويّة والأخرويّة، ملجأ العباد في الشدّة والرخاء. غاب عن عيون محبّيه ليحفظه الله تعالى من أيدي أعدائه، فغيابه (عليه السلام) لا يضرّ، إذ يكفي في صحّة إطلاقه الحجيّة بهذا المعنى، والتزام المؤمنين بتطبيق أوامره والسير على نهجه، فوجود الإمام لا يقتصر على الحجيّة فقط، بل إنّ له مهامَّ ووظائف أخرى كثيرة بحيث يكون الانتفاع به كالشمس التي غيّبتها السحاب، مثلما ورد في روايات أهل البيت (عليهم السلام). والشمس هي أساس النور، ولها عموم النفع، فنور الوجود، العلم والهداية، تصل إلى الخلق كنور الشمس، حيث إنّ الشمس تدخل البيوت بقدر ما فيها من نوافذ، وبقدر ما يُرفع عنها من موانع، فكذلك الخلق إنّما ينتفعون من فيوضات أنواره وهدايته بقدر ما يرفعون الموانع من حواسّهم ومشاعرهم. .............................................. (1) هود: 86. (2) كمال الدين وتمام النعمة: ص434.