فُلكُ النَّجاةِ
"إنّما مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، مَن دخلها نجا، ومَن تخلّف عنها غرق"(1). وأيّ مثلٍ ضربه نبيّ الهدى لأمّته! هي: (ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) )القمر: 13)، وقد ذكر (صلّى الله عليه وآله) بأنّ: "الألواح خشب السفينة ونحن الدّسر، لولانا ما سارت السفينة بأهلها"(2). ذاك الفلك التاريخيّ الذي عُمّرت ألواحه بتقوى الله، ورُصّت دُسُره بوعده الحقّ. ونوح (عليه السلام)، هو أوّل أولي العزم من الأنبياء، مَن دعا قومه إلى عبادة ربّ السماء، فلبث فيهم ألف سنةٍ إلّا خمسين عامًا، حتّى إذا أوحى الله إليه: (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ) (هود: 36)، فـ(اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) (المؤمنون: 27)، علم أنّ عذاب الله واقع، وانصرف إلى فلكه يبنيه ويحتمل في بنائه ما لا يُحتمل، فهنا قومٌ كفروا بربّهم وراحوا يستهزئون بنبيّهم وبعمله، ويمرّون عليه صبحًا وعشيّةً متسائلين: لماذا يبني سفينةً والبحر بعيد؟ وهل هو ينوي أن يبحر بها فوق كثبان الصعيد؟! شديدةٌ كانت أحقادهم، ودويّ أصواتهم يقرع آذان المؤمنين وأفئدتهم، ولكنّ الثبات على الحقّ يحتاج إلى يقينٍ وتسليم، وذاك ديدن السائرين على الصراط المستقيم. حتّى إذا جاء أمر الله: (وَفَارَ التَّنُّورُ) (هود: 40)، أمر البارئ نبيّه أن يحمل في السفينة: (مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) (هود: 40)، وخاطب نوحٌ أصحابه: (ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) )هود: 41)، (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ) (هود: 42). ويمرّ أمامه الناكرون وهم لم يبرحوا في طغيانهم يعمهون، وفيهم أحد أولاده، الذي عتا عن أمر ربّه وكفر بمعاده، ولحق بالضالين وانجرف في ذلك التيه، فناداه والده عساه ينجيه: (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) (هود: 42)، ولكن العناد الذي زلّ بذلك الضالّ، جعله يجيب أباه بصلفٍ وتعالٍ: (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) (هود: 43)، فردّ عليه نوحٌ عساه يردّه إلى رشده، ويتدارك بالتذكِرة فساد معتقده: (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِين) )هود: 43). (وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَ يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) (هود: 44)، أمّا نوحٌ فقد رأى قومه يغرقون عن آخرهم، إلّا مَن ركب الفلك معه، ورأى أقرب الناس إليه وهو يقع فريسة الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء، ولكنّه لم يُفتن، بل ناجى ربّه معتذرًا: (أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (هود: 47)، عندئذٍ: (قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا...) (هود: 47). إيهٍ نوح... ما أشبه دنيانا بطوفانكَ، وما أشبه سفينتكَ بعترة نبيّنا (صلّى الله عليه وآله)، مَن إن تمسّكنا بهم نجونا من مهلكات الفتن، ما ظهر منها وما بطن. اللّهمّ إنّا ركبنا الفلك، وتقاذفتنا أمواج الحياة. أفلا ترسو بنا على جوديّ النجاة، فقد طال بنا الانتظار واشتاقت لفرج وليّكَ القلوب والأبصار، (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) (المؤمنون: 29). .................................... (1) ميزان الحكمة: ج4، ص61. (2) بحار الأنوار: ج26، ص333.