رياض الزهراء العدد 172 لحياة أفضل
بَينَ الفَراغِ وَالانشِغَالِ
يعدّ الانشغال نعمة عظيمة، قد يمنّ بها الله تعالى على الكثير من العباد الذين يرون أهميّة العمل في المجتمع، فالإنسان الذي يكون يومه مليئًا بالانشغالات وبالمسؤوليّة التي تقع عليه فهو إنسان ذو أهميّة كبيرة وصاحب هدف يوصله إلى ما يريد، وترى (آشلي إيدر)، طبيبة نفسيّة من دولة الإكوادور أنّ هناك أنواعًا من الفراغ؛ فقد يكون ماديًّا، أو معنويًّا، أو نفسيًّا. فالفراغ الماديّ أو المعنويّ يتمثّل في وجود وقت إضافيّ لا يدري الشخص أين وكيف يستغلّه، أمّا الفراغ النفسيّ فهو الإحساس الداخليّ بالخواء والملل، حتّى وإن لم يكن لدى الشخص فراغ معنويّ، بل قد يكون الشخص مزحومًا بالعمل، ولديه الكثير من الأمور التي يجب عليه إنجازها، ولكنّه لا يزال يملك هذا النوع من الفراغ. ويؤثّر الفراغ النفسيّ سلبًا في أداء الشخص في أيّ مجال من مجالات حياته، سواء على الصعيد الشخصيّ أو العمليّ، ويمكن للشخص التعامل مع شعوره بالفراغ إمّا بزيارة الطبيب النفسيّ لتحديد إصابته بالاكتئاب من عدمه، أو يمكنه القيام بمجموعة من الأشياء التي تساعده على مواجهة الشعور بالفراغ النفسيّ. ونرى أشدّ أنواع الفراغ قساوةً هو الانشغال بالفراغ الذي يخلق من الفرد شخصًا قلقًا مضطربًا لا يستطيع تنظيم يومه فيقضيه باللوم، والقلق، والتأنيب لوجود الفراغ وضياع الوقت. لذا فإنّ الفراغ بكلّ أنواعه آفة لا يستطيع الفرد التخلّص منها إلّا بالانشغال، فعندما يصبح اليوم حافلًا بكلّ ما يشغلنا، فستصبح عقولنا حاضرة في اللحظة الحاضرة التي ينشغل بها، ولن يتمكّن الألم والقلق والهمّ والماضي من اجتياح تفكيرنا.. فالانشغال يمنح الإنسان الكثير من الإيجابيّات، منها النسيان، ولن يجد مساحة في عقله للنزاعات والسطحيّات وتفاهات الأشياء، وربّما يبعده عن مراقبة الناس وملاحقتهم وهم مشغولون بأنفسهم وحياتهم الخاصّة، فضلًا عن الابتعاد عن الحسد والانصياع للكثير من الأمراض التي تغزو المجتمع، فبالانشغال يستطيع الإنسان أن يصل إلى أسمى غاياته إذا كانت تصبّ في خدمة الفرد والمجتمع، ويستطيع أن يطوّر نفسه ويصل إلى هدفه مهما كان كبيرًا. يقول الكاتب البرازيليّ باولو: (إذا أردتَ شيئًا حقًّا فإنّ الكون سيطاوعكَ في الوصول إليه). وإنّ أعظم الإنجازات قد حقّقها أولئك الأشخاص الذين تمرّدوا على مناطق الراحة الاعتياديّة لديهم، وأصبح وقتهم ضيّقًا جدًّا، وذلك الانشغال جعلهم يستطيعون رفع مستواهم وإمكاناتهم مثلما رفع بالضرورة صحّتهم النفسيّة وعزّز الثقة في نفوسهم. فحيثما تواجد الفراغ، امتلأ الفرد من تلقاء نفسه بالهمّ والاكتئاب، والعادات السيّئة والإدمانيّة، بل تصل الأمور إلى أكثر من ذلك، ولهذا تجد معظم الأطبّاء النفسانيّين ينصحون مرضاهم بمختلف أعراضهم بشيء مشترك واحد هو: أن يجدوا شيئًا ينشغلون به، فاليوم المفعم بالحركة والحيويّة يجدّد النشاط الذهنيّ، ويُشعر الإنسان بالأهميّة وتحقيق الذات، وهو الذي يقع في قمّة هرم (ماسلو) للاحتياجات الإنسانيّة. أمّا الدراسات العلميّة فلم تثبت أنّ المشغولة أوقاتهم هم الأسعد فحسب، بل أكّدت دراسة أمريكيّة أجراها باحثون في مركز دراسات الدماغ والعمر الحيويّ بجامعة تكساس في دالاس، على أنّ الحياة اليوميّة المشغولة تعود على صاحبها بأداء عقليّ وذهنيّ أفضل من غيره عندما يصل إلى مرحلة الشيخوخة. ففراغ الحياة هو نتيجة لفراغ الهدف، والذي لا هدف له لن يكون انشغاله إيجابيًّا، فمتعة الانشغال تكمن في تحقيق الطموحات، وتجسيد الأحلام، وأيّ حياة ستكون بدون رغبات وأحلام؟ الإنسان بدون هدف يصبح في ضنك الحياة وبُؤسها، عائمًا في فراغها بلا طعم ولا لون ولا رائحة. والذي لا يتعب، لن يستمتع بلذّة الراحة، ولا بفرحة الإجازة.. لذلك احلم وخطّط واعمل وانشغل، فستجد في ذلك الكثير من السلام النفسيّ والارتياح الداخليّ وإن كان الجسد متعبًا.