عَلى قَيدِ الحَياةِ

منتهى محسن محمد/ بغداد
عدد المشاهدات : 166

لوهلة تصوّر أنّه فارق الحياة، فالدماء التي تنساب من أطرافه كفيلة بأن تمنحه إحساسًا بالموت، فضلًا عن الصندوق الخشبيّ الذي وُضع فيه بعد أن لُفّ بخرق بيضاء، والتي سرعان ما تحوّلت إلى بركة من الدماء. أحسّ بهمهمة الناس من حوله، وأصواتهم المضطربة وهي تتداخل فيما بينها، بين شجب ووعيد وعويل. شعر باقتراب أقدام منه وأياد تتناوله برفق، والجمع يكبّر بكثير من الحبّ والخشوع، حاول جاهدًا تحريك إحدى قدميه فلم يُفلح، شعر بثقلها الشديد، عاد يجرّب تحريك يده اليمنى التي لُفّت بضمادات كثيرة وشاش طبيّ وصل إلى حدّ المرفق بَيد أنّه أيضًا لم ينجح. دار بعينيه داخل الصندوق المغلق، كأنّ بصيص نور يتسلّل إليه، رأى جمهرة الناس ولاح إليه ظلّ صديقه (حسين)، وهنا عاد إلى استرجاعات الذاكرة واللحظات الأخيرة قبل أن ينتقل إلى داخل هذا الصندوق الخشبيّ. كانت الصور في البدء تأتيه مشوّشة، فالظلام دامس والليل حالك، فجّر سكونه صوت الرصاص الذي صعق الفضاء بشكل متواصل، شعر بأوصاله تُستفزّ وتتحرّك بعد سبات طويل لمّا أيقظته وجوه الأوغاد عبر استرجاعاته. تلك النظرة المشمئزّة التي تبادلها مع أحد السفلة كانت كفيلة بأن يقطعوه إربًا إربًا، ومع أنّه كان جريحًا ينزف لا حول له ولا قوة، إلّا أنّ نظراته التي بعثها شررًا تصرّح باحتقار أولئك الأنذال الذين باعوا العهد والدين بأبخس الأثمان. تحرّك الصندوق فجأة بحركة مضطربة حتّى استقرّ في مكان مرتفع، وراح القوم يشدّونه بالحبال القوية، صوت (حسين) صديقه المقرّب يهمس إليه باكيًا، أراد أن يبتسم لكن حالة الدهشة التي يعيشها آنيًّا وقفت حائلًا دون التصريح بذلك حتّى لو إيماءً، وعاد إلى شريط الذكريات لينصدم بلحظة سقوطه في أرض المعركة إثر هاون فتّاك قطع جزءًا من يده وإحدى قدميه، وتراءى له لحظتها وقوف أحد الدواعش على رأسه ساخرًا وشامتًا، وقد سلّط فوهة بندقيّته على رأسه، لكنّه لم ييأس وظلّ ينادي في سرّه: يا أبا الحسن.. ياعليّ.. ياعليّ. وما هي إلّا لحظات حتّى رشقتهم طلقات إخوته في الحشد، وقطفت تلك الرؤوس الجوفاء عن بكرة أبيها، وغمروا فؤاده بالفرحة، الفرحة نفسها التي غمرته الآن عندما نجح أخيرًا بتحريك يده السليمة والتلويح بها خارج الكفن؛ ليعلن لأصدقاء الدرب بقاءه على قيد الحياة على رغم أنوف الدواعش الفجرة.