خَامِسُ البَكّائِينَ

رجاء محمد بيطار/ لبنان
عدد المشاهدات : 164

بكى آدم لجنّته، وبكى يعقوب لبضعته، وبكى يوسف ذنوب إخوته وفراق أحبّته، وبكت الزهراء (عليها السلام) مصابها بوالدها، واستباحة حقّها بمخالفة وصيّته في عترته، وبكى السجّاد (عليه السلام) لكلّ ذلك، فكان بكاؤه ثمرة بكائهم، وحزنه خلاصة حزنهم، وزاد عليهم بعظيم مصيبته، إذ رأى بأمّ عينه مصارع والده وعمومته وإخوته وبني عمومته، وكلّ صالحٍ تباركت أرض نينوى في ذلك اليوم المشهود برسوخ خطوته، فكان بكاؤه المرصود هو جوهر قوّته، إذ مهر بمداد دمعه المقدّس آخر حرفٍ من وصيّته، فألقى على مسامع البشر أرفع الوصايا، وسنّ بدمعته المبذولة في سبيل الحقّ أوثق السُنن، فكانت نجواه دروسًا وعبرًا وعطايا، ورسائله المحمّلة بفكره الرشيد الوطيد تزرع في تراب الرزايا بذور المِنَن؛ لتنبت من رحم المنايا نبات الشجن، وتئد عواصف الفتن، فيثمر تلاحمًا بين الماضي والحاضر والمستقبل، وبين حبّ الله والأرض والوطن. لم يشهد التاريخ مثل تلك الدمعة الساكبة التي امتزجت بطعامه وشرابه وصلاته، وشهدت بها كلّ مرافق حياته، وانتثرت بين محرابه ومجالس عظاته، فبثّ بها كلّ رحيق شبابه وكهولته، وزهده وحكمته، وخطّ بمدادها اللجينيّ الناصع حقوق رسالته، فلم يعبأ بتهديدٍ أو وعيد، ووقف في وجه كلّ جبّارٍ عنيد؛ ليعلن للملأ المنهزم أمام سطوة الطواغيت، أنّ النصر لم يكن يومًا لسيفٍ حزّ طهر الوريد وقطف رأس الحسين الشهيد، بل إنّ النصر ميقات الصوت الصادح فوق المآذن، وشهادة التوحيد التي ما برح يعلنها للكون مسك المآقي وشوق المحاجر، وإنّما الشهادة نصرٌ كامن، وما فنيت أمةٌ استسقت من دماء أحرارها ريّ المحابر ودويّ الحناجر، ورفرفت فوق هامات أسوارها كفوف تروي حكايات الوفاء الذي لم يرتوِ من الماء، بل من عذب الفداء، ورؤوس لم تسجد إلّا للواحد القادر، فكان سجودها له هو منتهى العطاء... لقد مضت السنون في ركاب قافلة الليل المنتحب، وألقت رحالها عند مشارف المدينة الحزينة، ترثي سيّد الشهداء بحرّ العتاب، وترمي القلوب الثاكلة بجمر المصاب، وترفع رايات السواد فوق الحِراب، وتهزّ الضمائر الصامتة عن عيّ الجواب، أن قد قُدّم القربان وافتُدي الدين وضحّى حجيج كربلاء بخير الشباب، فهل إلى غديرٍ من سبيل؟! لقد أنصتَ الزمان لشهيق أنفاسه في جوف الليالي الحالكات، وروى قصص سجوده المرتوي من فيض دموعه الجاريات، وحمل جراب صبره على متنه المسودّ من وقع سياط الطغاة؛ ليطعم البطون الجائعات، وشقّ بدموع مناجاته في خدود الحياة جداول النجاة، فارتقت تراتيل آهاته صاعدةً نحو منبع النور، لتتّخذ الشمس مطيّةً تزيح بها عُتم الديجور، وتنشر ضياء الهداية والمحبّة الخالصة في كل اتّجاه، فما استطاع إطفاء نوره ضبابٌ ولا سحاب، حتى إذا أصرّ الحاقدون على اغتيال الصلاة، دسّوا زعاف حقدهم في طعامه المجبول بدمعه الملكوتيّ، ففتك السمّ بجسمه العلويّ، وتغلغل بلسم البكاء في ثنايا الرجاء ليحيي الروح بفيضه الأبديّ، ويسنّ قانون الولاء: "إلهي مَن ذا الذي ذاق حلاوة محبّتكَ فرام منكَ بدلًا، ومَن ذا الذي أنس بقربكَ فابتغى عنكَ حولًا، ...أسألكَ حبّكَ، وحبّ مَن يحبّكَ، وحبّ كلّ عملٍ يوصلني إلى قربكَ... يا مجيب يا أرحم الراحمين". .................................. (1) الصحيفة السجّادية الكاملة (مناجاة المحبّين): ص268.