عِندَما تَكونُ المُصِيَبةُ جَمِيلَةً

عهود فاهم العارضيّ/ النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 303

منذ أن كنتُ صغيرة وبدأت ذاكرتي تسجّل المواقف والكلمات، علقت فيها بعض الجمل الخاصّة بكربلاء الشهادة، أهمّها قول السيّدة الجليلة زينب الكبرى (عليها السلام): "ما رأيتُ إلّا جميلًا"،(1) ولكنّي لسنوات طوال لم أفهم الغاية منها، ولم أقتنع بجواب أحد من الذين سألتُهم عنها، فما الجميل في موقف امرأة مسبيّة مهضومة رأت أجساد خير البشر مقطّعة متناثرة، يدور حولها أطفال جياع خائفون عطشى يصرخون من شدّة الخوف والهلع؟! امرأة أُوكلت إليها مهمّة حفظ العيال والنساء، فهي وحيدة في رحلة سبي مريرة، كلّما رفعت رأسها رأت رؤوس الأبطال النشامى مقطّعة، نعم إنّها رؤوس أخوتها وعزوتها.. فالقدر لم يكتفِ بأخذ سبعين رجلًا من ذريّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى رأسهم أخوها ونور عينيها الحسين (عليه السلام)، وهل مصيبة العبّاس (عليه السلام) تُحتمل؟! وهل بعد قتل عليّ الأكبر أم القاسم شبيه الحسن (عليهما السلام) توجد طاقة لإكمال المسير؟! بل كان لسبي نساء العفّة والشرف وقع أكبر، ومصيبة عظمى على قلوب الفاطميّات، ولاسيّما قلب الإمام السجّاد (عليه السلام)، "ويُروى أنّ أبا حمزة الثماليّ رضوان الله تعالى عليه دخل يومًا على الإمام زين العابدين (عليه السلام) فرآه حزينًا كئيبًا، فقال له: سيّدي، ما هذا البكاء والجزع؟ ألم يُقتل عمُّكَ حمزة؟ ألم يُقتل جدّكَ عليّ (عليه السلام) بالسيف؟ إنّ القتل لكم عادة، وكرامتكم من الله الشهادة، فقال له الإمام: شكر الله سعيكَ يا أبا حمزة، كما ذكرتَ، القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة، ولكن يا أبا حمزة، هل سمعت أذناكَ أم رأت عيناكَ أنّ امرأة منّا أُسرت أو هُتكت قبل يوم عاشوراء؟ والله يا أبا حمزة، ما نظرتُ إلى عمَّاتي وأخواتي إلّا وذكرتُ فرارهنَّ في البيداء من خيمة إلى خيمة، ومن خباء إلى خباء، والمنادي ينادي أحرقوا بيوت الظالمين".(2) وهنا يكون السؤال: ما الجمال في ذلك؟ والجواب هو: في الحقيقة أنّ المؤمن مبتلىً مثلما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إذا أحبّ الله عبدًا ابتلاه، فإذا أحبّه الله الحُبّ البالغ افتناه، قالوا: وما افتناؤه ؟ قال: لا يترك له مالًا وولدًا"،(3) فإذًا كثرة البلاء مرتبطة بعمق الحُبّ الإلهيّ لهذا العبد، فكلّما كثر الحُبّ والرضا كثر البلاء والصبر على هذا البلاء حبًّا وتقربًّا لله تعالى، فتخيّلوا كيف كان حبّ الله تعالى للإمام الحسين (عليه السلام) وعياله وأصحابه حتّى يبتليهم هذا الابتلاء، كلّ هذا حتّى يرفعهم إلى أعلى علّيين، وكانت السيّدة زينب (عليها السلام) على يقين بهذا الحُبّ العظيم من الله تعالى لإمام زمانها وكلّ ما يرتبط به، ومن ثمّ هي تعلم بأنّها كلّما صبرت وتحمّلت اقتربت إلى الله تعالى، فتحوّلت هذه المصائب والبلايا إلى جمال وطمأنينة ورفعة وكبرياء محمّديّ علويّ في قلب جبل الصبر زينب (عليها السلام) فأصبحت المصيبة جميلة. ................................. (1) الأنوار المنبريّة في المجالس العاشورائيّة: ج2، ص189. (2) إرشاد الخطيب: ص33. (3) ميزان الحكمة: ج1، ص300.