ما حَقيقَةُ الغَيْبَةِ؟
اقتضت حكمة الله تعالى أن يكون الإمام أمانًا لأهل الأرض، فلا يُرفع منها ولو ساعة حتى تموج بأهلها، فقد رُوي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنّه قال: "لَوْ أَنّ الإِمَامَ رُفِعَ مِنَ الأَرضِ سَاعَةً لَمَاجَتْ بِأَهلِهَا كَمَا يَمُوجُ البَحرُ بِأَهلِهِ" (1). ومن جهةٍ أُخرى فإنَّ وجود الإمام (عليه السلام) يُشكّلُ خطرًا عظيمًا على مصالح أهل الباطل؛ لذا ما فتئوا يقتلون الأئمة واحدًا تلو الآخر، حتى رُويَ عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال: "واللهِ، ما مِنّا إلّا مقتولٌ شهيدٌ" (2). لذا فقد اقتضت الحكمة الإلهية أن يغيب الإمام (عليه السلام) جريًا على سُننِ مَن قبله من الأنبياء (عليهم السلام)، وحفظًا له من القتل، إضافةً إلى العديد من الحِكَمِ الأخرى التي تقدّم بيان موجزها في مقالٍ سابق. وأمّا حقيقة غيبة إمامنا المنتظر (عجّل الله تعالى فرجه الشريف) فهناك نظريتان في تفسيرها: أولاهما تُفسّرها بخفاء الشخص، فيكون غير مرئي، أي يفقد جسمه المبارك إمكانية رؤيته، فيما تُفسّرها النظرية الأُخرى بإمكان رؤية شخصه المبارك، بيدَ أنّه غير معروف الهوية والعنوان والشخصية من قِبل الآخرين، فيراه الرائي ولكنّه يجهل أنّه الإمام (عليه السلام). والأخيرة منهما هي الأرجح؛ لعديدٍ من الأدلّة، أبرزها: - إمكان تحقيق الجمع بين وجوده المبارك على الأرض وبين حفظه من القتل بمجرّد إخفاء هويته وعنوانه وشخصيته، من دون أن يستوجب الأمر إخفاء الشخص نفسه؛ لأنّ إخفاء الشخص لا يكون إلّا بجريان المعجزة، ومن المعلوم في علم العقائد ألّا يُصار إلى الإعجاز مع إمكان التوسّل بالأسباب الطبيعية. - وجود رواياتٍ تصرّح بإمكان رؤية شخصه المبارك من دون معرفة شخصيته الواقعية، منها ما رُويَ عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "إنَّ في صاحب هذا الأمر سننًا من الأنبياء (عليهم السلام).. وأمّا سنّة من يوسف فالستر، يجعل الله بينه وبين الخلق حجابًا، يرونه ولا يعرفونه" (3). - إنّ غيبته (عليه السلام) إنّما جاءت جريًا على السنن الجارية في الأنبياء (عليهم السلام)، ولم تكن غيباتهم (عليهم السلام) إلّا بإخفاء الشخصية، أو بالابتعاد عن الناس مع بقاء إمكان رؤية أجسامهم المباركة، مثلما في غيبة النبيّ يوسف والنبيّ موسى (عليهما السلام)، ولوحدة تلك السنن فإنّ غيبته (عليه السلام) لا تختلف عن غيباتهم في حقيقتها، رُويَ عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "..إنّ إخوة يوسف كانوا عقلاء ألبّاء أسباطًا أولاد أنبياء، دخلوا عليه فكلّموه وخاطبوه وتاجروه وراودوه، وكانوا إخوته وهو أخوهم، لم يعرفوه حتى عرّفهم نفسه، وقال لهم: أنا يوسف، فعرفوه حينئذ.... فما تنكر هذه الأمة أن يكون الله يفعل بحجّته ما فعل بيوسف، وأن يكون صاحبكم المظلوم المجحود حقّه صاحب هذا الأمر يتردّد بينهم، ويمشي في أسواقهم، ويطأ فرشهم ولا يعرفونه حتى يأذن الله له أن يعرّفهم نفسه، كما أذن ليوسف حين قال له إخوته: (أإنّكَ لأنتَ يوسف، قال أنا يوسف)" (4). وأمّا بعض الروايات التي تؤكّد على خفاء الشخص، ومنها ما رُويَ عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: "يفقد الناس إمامهم، فيشهد الموسم فيراهم ولا يرونه" (5)، فإنّما تُفسّر بإمكان الانتقال إلى الإعجاز مع اقتضاء الحاجة إليه، لاسيّما أنّ الإمام (عليه السلام) له ولاية تكوينية. ......................................... (1) الكافي: ج1، ص179. (2) الأمالي للشيخ الصدوق: ص١٢٠. (3) كمال الدين وتمام النعمة: ج١، ص 378 ـ 379 . (4) الغيبة للنعماني: ج١، ص١٦٥. (5) الغيبة للشيخ الطوسي: ج١، ص185.