دِلَالَاتُ الأَزمِنَةِ فِي القُرآنِ الكرِيمِ

آمال شاكر الأسديّ/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 375

إنّ مَن يتأمّل القرآن الكريم يجد فيه أسرارًا من التعبير تبهر العقول وتشدّ الأذهان، وتتجلّى بعض هذه الأسرار في أسلوبه الدقيق في استعمال الألفاظ، فلكلّ لفظ سرّ وإعجاز وقصد في استعماله دون غيره، فهو يختار لكلّ معنى الصور المناسبة له، ومن تلك الأسرار توظيف القرآن الكريم لصيغ الأفعال، وأثر اختلاف هذه الصيغ في دلالة المفردة القرآنية، ففي قوله تعالى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (البقرة: 15). عبّر الله تعالى بصيغة الفعل المضارع (يستهزئ) من دون صيغة الاسم (مستهزئ)، فاستعمل الفعل لأمر أراد إثباته، وهو تجدّد الاستهزاء بالمنافقين؛ لأنّ الفعل يدلّ على التجدّد والحدوث من دون الاسم الذي يدلّ على الثبوت (١)؛ فالله تعالى مستمرّ في استهزائه بهم(٢)، وفيه إشارة إلى أنّ نكايات الله (عزّ وجلّ) وتحقيراته تتجدّد عليهم ليحسّوا بالألم ويتأثروا به (٣). وفي قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (الأنعام: 95). جاء التعبير بالفعل (يُخرج) مع الحيّ، وبالاسم (مخرج) مع الميت؛ (لأنّ أبرز صفات الحيّ الحركة والتجدّد، فجاء معه بالصيغة الفعلية الدالّة على الحركة والتجدّد، ولأنّ الميت في حالة همود وسكون وثبات جاء معه بالصيغة الاسمية الدالّة على الثبات) (٤). وهذا يعني أنّ لدلالة الفعل المضارع هنا أثرًا في بروز المعنى وتوظيفه، فكمنت جمالية الكلمة باستعمال الفعل المضارع الذي يدلّ على أنّ الله مستمرّ في إخراج الميت من الحيّ، وبالعكس وعلى الدوام، فلا تقتصر قدرته على وقت معيّن، ولهذا لم يستعمل زمن الماضي، فقدرته غير محدّدة بزمن. وفي قوله تعالى: (وما كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (الأنفال: 33). استعمل في صدر الآية الفعل (يعذّبهم)، وجاء بعده بالاسم (معذّبهم)؛ وذلك لأنّه جعل استغفارهم مانعًا ثابتًا من العذاب بخلاف بقاء الرسول (صلّى الله عليه وآله) بينهم، فإنّ العذاب موقوت ببقائه بينهم، فذكر الحالة الثانية الثابتة للصيغة الاسمية، والحالة الموقوتة للصيغة الفعلية (٥). وفرّق القرآن الكريم بين صيغتي (فعّل) التي تفيد التكثير والمبالغة، وصيغة (أفعل) التي تأتي للتعدّي(٦)، فقال: (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) (آل عمران: ٣-٤) و(أَنْزَلَ) لا يعطي إعطاء نزّل وإن كان محتملًا، وكذا جرى في أحوال هذه الكتب، فإنّ التوراة إنّما أوتيها موسى (عليه السلام) جملة واحدة في وقت واحد (٧)، فالكتاب في وحدته وشموله يقترن بالتكثير (نَزَّلَ)، والفرقان في تكثيره وتفريقه مقترن بالتوجيه والقصد في شمولها (أَنْزَلَ)، وبتصريف الأمر على وجه محدّد مختار(٨). يُستنتج من ذلك أنّ اختلاف صيغة المفردة أدّى إلى اختلاف دلالتها، فلهيئة اللفظة ووزنها أثر في تصوير المعنى، ولهذا فالقيمة الصرفية هي التي توجّه المادّة الأساس وتضعها في مجال وظيفي معيّن(٩). ............................ (1) يُنظر: معاني الأبنية: ص9. (2) يُنظر: شروح التلخيص: ج٢، ص٨٢-٨٣. (3) يُنظر: إشارات الإعجاز في مظانّ الإيجاز: ص١٣٧-١٣٨. (4) التعبير القرآني: ص٢٣. (5) يُنظر: التعبير القرآني: ص٢٦. (6) المفردات في غريب القرآن: ص٥١١، والبرهان في متشابه القرآن: ص٣٠١. (7) ملاك التأويل: ج١، ص٢٨٦. (8) النصّ القرآني: ص٨٠-٨١. (9) ينظر: علم الدلالة العربي: ص٢٠-٢١.