قِرْبَةُ مَاءٍ

منتهى محسن محمد/ بغداد
عدد المشاهدات : 174

"العطش، العطش، العطش" ظلّت هذه الكلمات تعرش في فكره، وتجتاح مساحة من فؤاده، وتحتلّ دموعًا غزيرة تترقرق في مقلتيه كلّما تردّدت على مسامعه. صغيرًا كان عندما رافق والدته إلى بيوت الجيران، متنقلًا من بيت لآخر في مأتم الحسين (عليه السلام)، كلّ المصائب كانت توجعه، لكن مصيبة أبي الفضل (عليه السلام) كانت تبكيه وتؤرّقه، كبر الطفل (عبّاس) بعدما تغذّى بحبّ أهل البيت (عليهم السلام)، وارتوى من رحيق حبّهم وولائهم، وها هو الآن يشاطر إخوته الغيارى دفاعًا عن الوطن ومقدّساته من شرذمة عصابات داعش، ومَن مضى على غرار أفكارهم المشؤومة. صرخ أحد الأبطال: انتبهوا، حدث اختراق خطير لمواضعنا الجديدة من قبل الدواعش، ساد صمت قليل قبل أن تنطلق حملة شرسة خطفت أرواح الكثير من شباب الحشد الأشاوس، وتوالت ثلاثة أيام عجاف في حصار قاسٍ لم تنم فيه العيون، ولم يهنأ أحد بشربة ماء، غالب عبّاسًا العطش مع إخوانه المحاصرين في أحد جبال مكحول، ثمّ جاء نداء الدواعش يطلبون من أبطال الحشد الاستسلام، لكن الإجابة كانت قاصمة بالرفض الشديد، تبادل الطرفان إطلاق النار، ثم اضطرّ الدواعش للعودة إلى أوكارهم خاسئين، ولكنّ الجوع والعطش بدأ ينهك الجنود، وأُغمي على بعضهم. في صباح اليوم الرابع تطلّع عبّاس نحو الساتر وهَمّ بجلب الماء وإن استدعى ذلك قطف روحه، وحدّث رفقاءه: (احموني)، وراح زاحفًا تحت وقع القنابل، ظلّت أبصار الجميع شاخصة نحوه حتى غاب عن الأنظار. ساعات طويلة مضت حتى عاد الرمي من الدواعش، ولاح زحف عبّاس من جديد، وفوق صدره (جلكان) الماء، وحالما وصل إلى منطقة القنص الخطيرة وضع درعه على الجلكان، وأخذ يركض إلى الوراء باتجاه موضعهم المحاصر وهو يتّقي رصاص الدواعش وقنّاصهم بظهره كي لا يصل الرصاص إلى الماء، اشتدّ الرمي وعبّاس يكرّر بصوت عالٍ: يا ربّ العباس يا ربّ العبّاس... وفي مكان قريب يبعد عنهم بضعة أمتار سقط على الأرض إثر النزف الشديد، وقد لوّح بيده قائلًا بصوت ضعيف: خذوا الماء وارووا عطشكم. هكذا ارتوت الأرض من دمائه الزاكية، وقد خطّ بدمه صورة فدائه الجميل المقترن بحبّ ساقي عطاشى كربلاء المولى أبي الفضل العبّاس (عليه السلام).