رياض الزهراء العدد 175 منكم وإليكم
(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)(1)
- أو تحسبني قادرًا على إجلاء شبهةٍ كهذه بهذه العجالة؟! طأطأتُ رأسي أمامه كالمستسلم لقدره، وأجبتُه بهمس: - إن رويتَ غليلي، رواكَ جدّه الأكبر من ماء الكوثر، وأنا مستمعٌ رشيد، فلن تحتاج إلى الإطالة! سرح بعيدًا بنظرةٍ أحدّ من الشهاب، تخطّت حاجبيه الكثيفينِ الأشيبينِ لتخترق حجب التاريخ، ثمّ أطلق زفرةً حمّلها همّ أمّة، وهتف: - يا لمظلومية آل محمّد (صلّى الله عليهم)، ليست تلك أولها ولا آخرها، ولكنّه خبر يفوح من جنباته عفن الفتن، وينثر رماده فوق كلّ وثن، وما أكثر أوثان ذاك الزمن، وهو روحي فداه سليل النجباء وجدّ الشرفاء، إليه ينتسب السادة الرضويّون في "الكوفة الصغرى"، وهذا أول الردود على تلك الظلامة. - كيف ذاك؟! - رويدكَ، ولا تتعجّل رزقكَ، فالسيّد الشريف موسى المبرقع ابن الإمام الجواد (عليه السلام)، ما كان سادرًا في غيّه، أو عاصيًا لربّه ونبيّه، ولو كان كذلك للحق به ما لحق ببني جعفرٍ الكذّاب من خزي، إذ فضّلوا أن ينتسبوا لعمّهم السيّد محمّد صاحب بلد، على أن تكون نسبتهم إلى أبيهم الضالّ، أما وقد كانت نسبة السادة الرضويين إليه، فتلك حجّة دونها كلّ حجّة في إبطال ما نقله المغرضون من منادمته للمتوكّل، وعصيانه لأمر أخيه الإمام الهادي (عليه السلام)، فإنّ الخبر قد ضعّفه أكابر علمائنا، كالشيخ المفيد والشيخ النوريّ، والسيّد الخوئي في معجم رجال الحديث. - لهفي عليه، أيلفّقون له ما يسوّدون به صحيفته البيضاء، وهو عند الله من الأتقياء؟ - بلى، وليست تلك أول أكاذيبهم بحقّ العترة الطاهرة، ليصرفوا عنهم كلّ عينٍ ناظرة، ويكفيكَ من شرف مقامه أنّه ثبت لدى المتقدّمين والمتأخّرين أنّه رفض نسبة الإمامة إليه بعد أبيه وأخيه، وهل كان بعض الشيعة لينسبوا الإمامة إليه جهلًا لولا أنّه كان من المتخلّقين بأخلاق الأئمة (عليهم السلام)؟!... أمّا رفضه لتلك النسبة وإقراره بإمامة أخيه الهادي (عليه السلام)، فذاك دليلٌ آخر على صدق ولائه لآبائه الطاهرين، وحسن نسبته إليهم قولًا وعملًا... لم أدرِ أنّ البشاشة غمرت ملامحي الساكنة، إلّا حينما لاحت خلف قسماته الدهرية إشراقة أشبه بشعاع شمسٍ غاربة، وأردف: - إن كان سرّكَ اجتلاء الخبر، فما قولكَ باجتلاء طلعة القمر؟! اتّسعت ابتسامتي لأستقبل بقيّة الحديث، وتابع شيخي بصوتٍ حثيث: - لم يختلف العلماء في أنّ موسى المبرقع كان شقيق الإمام الهادي (عليه السلام)، وأنّه كان يصغره بسنتين، وأنّ أمّهما وأم السيّدة حكيمة هي السيّدة سمانة المغربية، وأنّه كان من أهل العلم والفضل، وأنّ الله قد حباه فوق كماله وطيب خصاله جمالًا يوسفيًّا أخّاذًا، صار معه محطّ أنظار البشر المنبهرين بحسن صورته، ممّا حدا به إلى ستر وجهه ببرقع؛ وقايةً من الفتنة، حتى لُقّب بالمبرقع، ولعمري فإنّ تلك الأخبار العاطرة لهي دلالة أخرى على عبق سيرته الطاهرة، فقد كان يوسف بني الرضا في العفّة وتقوى الله، قد أعرض عن كلّ إثم وتمسّك برضاه... صدح في الفضاء صوت المؤذّن يعلن ولوج الليل في النهار، فتململتُ في مجلسي لأقوم، تاركًا شيخي مع آخر الأذكار يتهيّأ لصلاته، ولكنّ شيئًا ما في مشيته المتثاقلة إلّا للسعي في حوائج الناس، حدا بي أن أسأله: - أتستقبلني في محرابكَ؟ عساي أتبرّك بكشف جديد عن ظلامات آل محمّد (صلّى الله عليهم أجمعين) لهج لسانه بالصلوات، وأفسح لي بقربه، فتأخّرتُ عنه خطوات، وائتممتُ به وقد تسابقت في فكري الأًصوات والدعوات، ويمّمتُ وجهي شطر تلك الفلوات التي أريد لكثبانها أن تدفن ذكر آل محمّد ـ صلوات الله عليهم ـ ولكنّ الله أبى إلّا أن يتمّ نوره ولو كره المبطلون. .............................. (1) يوسف: 29.