رياض الزهراء العدد 175 منكم وإليكم
أُفُولُ نَجمٍ وَخُلُودُ بَرِيقِهِ
العلماءُ العاملون كالنجوم التي تضيء لأهل الأرض؛ لتخرجهم من ظلمات الجهل وفتن الأفكار، وهم ورثة الأنبياء وخلفاؤهم، وهذا ما أشارت إليه الروايات الشريفة، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "العلماءُ ورثةُ الأنبياء، يحبُّهم أهلُ السَّماء، ويستغفر لهم الحيتان في البحر إذا ماتوا إلى يوم القيامة" (1). وما سُمّوا ورثة الأنبياء إلَّا لرفيع منزلتهم؛ فلولا وجود هؤلاء العلماء لاندثر الإسلام، فَهُم خبراء الإسلام وحرَّاسه، وهذا يتأكد في زمن الغيبة، قال الإمام الهادي (عليه السلام): "لَوْلا مَنْ يَبْقى بَعْدَ غَيْبَةِ قائِمِكُمْ علَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِنَ العُلَماءِ الداعينَ إِلَيْهِ، وَالدالّينَ عَلَيْهِ، والذابِّينَ عَنْ دينِه بِحُجَجِ اللهِ، وَالمُنْقِذينَ ضُعَفاءِ عِبادِ اللهِ مِنْ شِباكِ إِبْليسَ وَمَرَدَتِهِ، وَمِنْ فِخاخِ النَّواصِبِ، لما بَقِيَ أَحَدٌ إلّا ارْتَدَّ عَنْ دينِ اللهِ" (٢)؛ فقد أظهروا الإسلام، وبيَّنوا أحكام القرآن، وأهداف الإسلام تتحقّق بألسنتهم وعملهم؛ فكلمة الحقّ لها تأثيرها الخاصّ، وكلامهم كالسراج الذي يأخذ بيد الأمة؛ لتعبر الأوهام، وتصل إلى الأهداف الإلهية، ووجودهم موعظة، فمجرّد النظر إلى العلماء يثير في الناس العظة والعبرة؛ إنَّهم دعاة الله الصامتون بأخلاقهم، وعلمهم، وقد رُوي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "النظَرُ إلى وَجْهِ الْعَالِمِ حُبًّا لَهُ عِبَادَةٌ" (٣)، وعلى الرغم من عظمة دماء الشهداء، وأثرها في قوة الأمة وعزّتها وحمايتها من الأخطار، إلَّا أنّ الروايات تؤكد على أنّ آثار مداد العلماء أعظم، فالشهيد اختصر الطريق، وقدّم كلّ ما يملك في سبيل الله تعالى، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "وُزِنَ حِبرُ العُلَماءِ بِدَمِ الشهَداءِ فَرَجَحَ عَلَيهِم" (٤). لقد كان علماء المسلمين لمئات السنين كهفًا للمحرومين، وعينًا ارتوى منها المستضعفون؛ إلى جانب جهادهم العلمي والوقوف بوجه الأعداء، ومن هؤلاء العلماء شيخ الطائفة ذو الفنون أبو القاسم نجم الدين الحِلّي، فقد كان يمتاز بمجموعة من المؤهلات النادرة التي هيّأت له الصدارة في القيادة والزعامة؛ أستاذًا ومرجعًا؛ وعلى الرغم من وجوده في زمن الخراب والدمار بسبب الغزو المغولي، وفي عصر متأزّم فكريًا وروحيًا ومتدهور سياسيًا واقتصاديًا، إلَّا أنَّه استطاع أن ينشر التشيّع، ويثبّت العقائد، ويدفع الشبهات، فأصبح محلّ اهتمام العلماء إلى يومنا هذا. كان حاميًا للدين، وماحي آثار المفسدين، متمّم القوانين العقلية، وحاوي الفنون النقلية، مجدّد آثار الشريعة المصطفوية، ومحدّد جهات الطريقة المرتضوية، وكان كثير النشاط والعطاء، وله رحلات علمية عديدة؛ أهمّها رحلته إلى إيران التي صاحب فيها السلطان (خدا بنده)، الذي أعجب بمهارته في ردّ الشبهات، وسعة اطّلاعه بعد مناظرة مع علماء من المذاهب الأخرى، أدّت الى تشيّع السلطان، وأعاد لمدينة الحلّة مكانتها العلمية، وازدهرت المدارس، وضُرِبت النقود باسم الأئمة الأطهار (عليهم السلام) في جميع البلدان، وأمّا كثرة تآليفه التي تجاوزت (١٢٠) مؤلفًا في مختلف حقول المعرفة، فقد كانت أعجوبة لكلّ مَن عرفه من المستشرقين والعرب. أَفَل نجم هذا العالِم الجليل بعد (٧٧) عامًا من العلم، والجهاد، وخدمة العلماء عن طريق الإسهام في رفد العلوم الإسلامية على المستويات كافة، ولا يزال المسلمون ينتفعون بعلمه، وبرحيله توارى مصنّف مجتهد، وبقيت آثاره ومصنّفاته، مثلما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "هَلَكَ خُزَّانُ الأَموَالِ وَهُمْ أَحيَاءٌ، وَالعُلَمَاءُ بَاقونَ مَا بَقِيَ الدَّهرُ أَعيَانُهُم مَفقودَةٌ وَأَمثَالُهُم فِي القلُوبِ مَوجُودَةٌ" (5). ............................................. (1) ميزان الحكمة: ج٣، ص ٢٠٦٧. (2) المصدر السابق: ج٧، ص ٢٠٨٧. (3) المصدر السابق: ج٣، ص ٢٠٧٠. (4) المصدر السابق: ج٣، ص ٢٠١٥. (5) الخصال: ج1، ص 186.