فِي الشَّارِعِ

خديجة عليّ عبد النبيّ
عدد المشاهدات : 147

بائع اللبان الصغير.. المشهد المتكرّر الذي لا أستطيع أن أتخطّاه كلّما مررتُ على هذا الدرب.. صورة درامية بارعة متقنة، وقد صاغتها آلات الحرب، وأراني أستمرّ أمامه كدمية تغرق على مهل في نهر رملي.. كان يشبه قطّة مشرّدة.. بَيدَ أنّ القطط تبدو أكثر حرية منه، نظراته مهترئة مكشوطة من الأمل، لكنّها ليست بميتة بعدُ، يقلّبها على الصور الآخذة بالذهاب والإياب أمامه، قدماه ونعلاه باتتا بلون ترابي واحد، قدمان صغيرتان هرمتان، العرق يتصبّب من جميع جسده النحيل، الطفولة تطغى على صوته وهو يتوسّل المارّة كي يشتروا منه، لكنّه رجل العائلة في الوقت ذاته! وحينما ييأس من الناس أراه يبتعد قليلًا عن الطريق ويقف كنجمة منزوية خامدة، أو كتحفة مترّبة مركونة في غرفة مغلقة منذ سنين طويلة، هامدة، جامدة، مغطّاة بملاءة صارت مع تقادم الزمن عليها رمادية باهتة، إلّا أنّه سرعان ما تتوهّج عيناه ما إن يقترب أحدهم منه طامعًا في أن يحصل على رزقه البسيط، إنّه يبيع مع (العلكة) وقته الثمين الذي يجب أن يلعب فيه، إنّه يتاجر بعمره! تائه في حلم هذا الواقع البائس الذي يرفض الاستيقاظ، أتساءل دائمًا في قرارة نفسي حينما أرنو إليه وتتبعه نظراتي الآسفة، أتراه يحلم بأن يتّسع العالم بطريقة ما، ويحلّق بعيدًا عن هذا الطريق؟ كأن يكون باستطاعته أن يمضغ جميع محتويات العلبة التي بجعبته، ويصنع منها منطادًا يمتدّ كدرب سماوي في قلب الغيم! تُرى كم من الحيرة تجتاح هذا الولد؟ أليس الوقت مبكرًا جدًا كي يتذوّق طعمها القابض المزعج! بائع اللبان هذا بدين بالهموم والأفكار، كبير حينما تهبط دمعته من جبال الكبرياء والنقاء الملوّنة، فتُحدِث شرخًا وصوتًا مدويًا في غابة روحه المحترقة! أقترب منه دائمًا بابتسامة مهدّلة محاولةً التخفيف من تعبه، أشتري منه بغية أن أنفخ بالونات سعادة وردية هلامية رقيقة في قلبه الممضوغ من الوهن!