رياض الزهراء العدد 176 لحياة أفضل
حِكمَةُ الأَرزاقِ
قال الله تعالى: (وَالله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ....) (النحل: 71). في ميزان الخالق جلّ وعلا لا يمكن للأمور أن تجري هكذا بدون تقدير وحساب، فالحكمة هي سيّدة الموقف في هذه الدنيا لكونها مزرعة الآخرة، وما صرّحت به الآية الكريمة يبيّن لنا الفارق الذي يفرض نفسه على الناس في كلّ زمان ومكان، فيمسي واقعًا لا يمكن تجاهله، بل إنّه أمسى مثار حسد وعُقَد نفسية لدى البعض ممّن ابتلوا بشحّة الأرزاق وضنك المعيشة، بل تعدّى الأمر إلى اتهام المولى (عزّ وجلّ) بسوء التقدير، والانحياز لفئة معيّنة دون أخرى - والعياذ بالله - لكن المسألة لا تعدو كونها امتحانًا، بل امتحانًا عسيرًا لمَن وقع عليه هذا الشحّ، وكذلك لمَن أُغدِق عليه بالثراء الوفير على حدّ سواء، فكلاهما في محطّة للتفكّر وعقبة؛ ليظهر كيف يواجهها الغني والفقير، هل بالشكر أم بالكفر؟ يتفاخر البعض ممّن فُضّل بالثراء والجاه والسطوة، ويعزون ذلك كلّه إلى جهودهم وذكائهم وحنكتهم في اصطياد فرص النجاح والتفوّق، وينسون أو ربّما يتناسون أنّ لله اليد الطولى، والفضل الأكبر في ما وصلوا إليه، لكن السؤال الذي ما يفتأ يطرح نفسه وبعد هذه المقدّمة: لماذا هذا التعالي والتكبّر من بعض ممّن ابتلاهم ربّهم برغد العيش على سواهم من الناس؟ أتُراهم خُلِقوا من طينة مبجّلة غير طينة الفقراء حتى يغضّ أحدهم طرفه ويتهرّب من لقاء أخيه البسيط، فيظنّ أنّ الفقر نحس كالغراب، ربّما يحطّ على قلعته فيحيلها ترابًا وتمسي أثرًا بعد حين! أو هكذا توهمهُ نفسه الأمّارة بالسوء. أم للأثرياء دستور خاصّ بهم، يعطي الحقّ للمتملّق لهم أن ينعم بعطاياهم، أو تسهيل بعض معاملاتهم لقاء بعض كلمات الإعجاب والإكبار، وفي المقابل تُمنع عطاياهم، ويد العون عن أرحامهم فقط؛ لأنّهم ذوو نفوس أبية تأبى النفاق حفاظًا وصونًا لكرامتهم، والنتيجة عوائل متقاطعة ولسنوات طويلة، وعندما يلتقي الأقرباء من العشيرة الواحدة في مناسبة أو اجتماع ما يجهل بعضهم بعضًا وكأنّ الدم أصبح ماءً، إذ هكذا هي قوانين أغنياء العشيرة الواحدة، لا فقراء في حياة الأغنياء، فيورّثون القطيعة لأبنائهم، مثلما يورّثون القصور والأموال. يا لها من طامّة كبرى عصفت بالمجتمعات، إذ جعلت الأشقّاء كالغرباء بسبب حطام الدنيا الزائلة، فأين نحن من رحمة الإسلام؟ إذ جاء ليمحو هذه النظرة الدونية، ويحطّم الفوارق الطبقية بين بني البشر، فلا فضل لعبد على عبد إلّا بالتقوى والعمل الصالح، وأخيرًا ما أحوجنا اليوم - ونحن نرزح تحت وطأة الحروب والقتال والدماء والأمراض والكوارث وغيرها من الكروب والمصائب - ما أحوجنا إلى التكاتف والتراحم والتعاطف بين الناس مهما اختلفت مذاهبهم وطوائفهم وأجناسهم وأعراقهم؛ لنغدو جميعًا تحت ظلّ رحمة الله ولنكون مصداقًا لقول رسول الله (صلّى الله عليه وآله): "مَن نفّس عن أخيه المؤمن كربة من كرب الدنيا، نفّس الله عنه سبعين كربة من كرب الآخرة"(1). وبهذا التراحم وغيره من سائر الفضائل تسمو الأمم وتزدهر الشعوب، وتتغلّب على المصاعب والمحن، إذ إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم. ............................. (1) ميزان الحكمة: ج2، ص1292.