رياض الزهراء العدد 176 الحشد المقدس
شَبابٌ وشَيبَةٌ
لم يشأ أن يبقى مكتوف الأيدي والبلد قد دنّسه الغاصب، وفتوى الدفاع الكفائي تتردّد في رأسه صباحًا ومساءً، وعلى الرغم من كبر سنّه وتجاوزه سنّ الستين، إلّا أنّ اندفاعه لمواجهة شرذمة داعش صيّرته شابًا مليئًا بالإرادة والحيوية والإباء. - أمّ خضيّر، يا شريكة حياتي ورفيقة الدرب العسير، لن أستطيع صبرًا بعد الآن، أشعر أنّ دمي يحترق وأنا أُجالس الجدران، أعلم أنّ صحّتكِ ليست على ما يرام، وأنّكِ بحاجة للرعاية والاهتمام، لكن سيكون خضيّر إلى جانبكِ وسيلبّي احتياجاتكِ في غيابي. - توكّل على الله، لا تكترث بي، فالله يرعى عباده أجمع. جاءت كلمات أمّ خضيّر مداعبة روحه العاشقة للشهادة، والمضي نحو ساحات الوغى، وما هي سوى أيام حتى تهيّأ للالتحاق بمدينة الفلوجة. - خضيّر بنيّ، سأمضي وأخلّفكَ بعدي، اهتمّ بوالدتكَ، لا تهملها، هذا طلبي منكَ. - أنا فخور بكَ يا والدي، اطمئنّ، ستجري الأمور على ما يرام. هكذا التحق أبو خضيّر مؤدّيًا واجبه على أتمّ ما يكون، وعندما عاد في إجازته استقبله ابنه خضيّر متلهفًا، وامضيا معًا وقتًا طيّبًا وجميلًا، راح الأب يروي لهم قصص البطولة، ويقصّ حكايات الجنود الشجعان، يرويها بصوته الجهوري الذي يزيد من القصّة إمتاعًا وتشويقًا. يرهف الابن سمعه صاغيًا بكلّ جوارحه، متصفّحًا وجه أبيه، محرّكًا رأسه بين حين وآخر إشارة على الموافقة أو لتعظيم ما يقول، بينما تعدّ الأمّ المسنّة وجبة الغداء البسيطة، وتجلس تشاطرهم الاستماع والأكل بمهل، وعلى هذا المنوال يتكرّر الحال كلّ شهر حين عودة الأب من الواجب المقدّس. بعد مرور أشهر وفي أثناء التحاقه، كان اليوم ترابيًا عاصفًا، والعدّو قد أضرم حقده الأسود، مرسلًا مدرّعة مفخّخة، وبسبب الريح الترابية أخفقت قاذفة الـ(آر بي جي 7) التي أرسلها أشاوس الحشد مكان المدرّعة، وظلّت تتقدّم نحو الساتر بخبث حتى تصدّى لها أحد الأبطال برشّاشته وقد لفّ جسده بالعلم، وقف قبالها بتحدٍ مصوّبًا إطلاقاته، لكنّ الشظايا اخترقت جسده الشجاع، وفاض دم الأحرار، وسقط أرضًا، في حين هبّ أصحابه لسحبه إلى الخلفية. كان أبو خضيّر يتابع من بعيد، وعيناه شاخصتان نحو ذلك البطل المقدام، مردّدًا في سرّه: بارك الله بأمّ ولدته، وأب ربّاه، يحذو حذو عليّ الأكبر (عليه السلام). ولمّا همّ بالتقرّب نحوه استقبله الجنود بالبكاء بشكل عنيف، مانعيه من الاقتراب، لم يفهم ما يحدث أول الأمر، وكلّما اقتربت خطواته اشتدّ البكاء وازداد حاجز المنع، حتّى تحرّكت يدا الجريح تشير نحوه دون غيره. عندها تركه الجميع وتقدّم الرجل المسنّ، فإذا به يصافح وجه ابنه خضيّر وهو في النزع الأخير قائلًا: - أبي سامحني، لم أفِ بوعدي لكَ، لقد شغلتني واعية الحسين (عليه السلام): "ألا من ناصر ينصرنا" عن أيّ شيء آخر. تجمّدت دموع الأب، وترك حجره يحتضن وليده الذي قضى نحبه بين يديه، وقد فهم للتوّ أنّ الجميع أخفوا عليه الأمر رأفة بشيبته، وامتدّ الجمع المؤزّر نحو الشهيد ووالده بقبلات ودعوات ووداع مرير.