السَّيَّدة زَينبُ (عليها السلام) حُجّةٌ عَلى نِسَاءِ الأَرضِ
زقزقت عصافير المدينة، وهبّت نسائمها مبتهجةً، ورتّلت الشمس تراتيلها الوجدانية بعد أن بثّت نورها الولائي على أرجاء مدينة رسول الله (صلى الله عليه وآله) في السنة السادسة للهجرة، مستبشرة بولادة ثاني أعظم سيّدة من سيّدات أهل البيت المحمّدي. في الخامس من جمادى الآخرة استقبل البيت العلويّ الفاطمي الطاهر بكلّ فرح وسرور، وغبطة وحبور الطفل الثالث من أطفالهم، وهي البنت الأولى للإمام أمير المؤمنين والسيّدة فاطمة الزهراء (عليهما السلام). حملت زهراء الرسول وليدتها المباركة إلى الإمام، فأخذها وجعل يقبّلها، والتفتت إليه فقالت له: "سمّ هذه المولودة" فأجابها الإمام بأدبٍ وتواضعٍ: "ما كنتُ لأسبق رسول الله"، وعرض الإمام على النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يسمّيها، فقال: "ما كنتُ لأسبق ربّي"، وهبط رسول السماء على النبيّ، فقال له: "سمّ هذه المولودة (زينب)، فقد اختار الله لها هذا الاسم، وأخبره بما تعانيه حفيدته من أهوال الخطوب والكوارث فأغرق هو وأهل البيت في البكاء" (1). نلاحظ مدى الرقي والاحترام الذي كان يتعامل به أهل بيت النبوّة مع المولود البنت، وفي هذا درس عظيم من دروس السيرة النبوية، وهو بيان الفرح والسرور عند الرزق بالبنات، وشكر الله (سبحانه وتعالى) على ما وهبه من الذرّية، وأن يُعزَم على حسن تربيتها وتأديبها، حتى يُظفَر بالأجر الجزيل من الله. ترعرعت السيّدة زينب (عليها السلام) في دار يُشرف عليها ثلاثة هم أطهر خلق الله تعالى: محمّد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعليّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، وسيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السلام)، لذا نشأت حفيدة الرسول (صلى الله عليه وآله) في بيت الوحي، ومركز العلم والفضل، فنهلت من مدينة علوم جدّها وأبيها وأخويها، فكانت من أجلّ العالمات، ومن أكثرهنّ إحاطة بشؤون الشريعة وأحكام الدين. وهنا يظهر مدى اهتمام أهل بيت النبوة (عليهم السلام) بإعداد الفتاة وتنشئتها على التربية الإسلامية الصحيحة، وإحاطتها بجميع العلوم؛ لتكون امرأة قوية تستطيع أن تواجه المجتمع بدينها وثقافتها وعلمها. إنّ هذا الإعداد وهذه التنشئة ما هو إلّا دليل ورسالة واضحة على مكانة المرأة في الإسلام، ودورها الفعّال في تنشئة المجتمع لكونها عاملًا أساسيًّا في قيام الحضارات والأمم، فقد كان أثر هذه التنشئة واضحًا في سيّدة نساء العالمين (عليها السلام) في مواجهة الظروف القاسية بصبر واقتدار. وعندما أفجع الموت السيّدة زينب (عليها السلام) بفراق والدتها الزهراء (عليها السلام) وهي في سنّ صغير، كانت على أتمّ الاستعداد لتحمّل المسؤولية، وتحمّلت مسؤولية البيت ورعته وأدارت شؤونه، وأصبحت ترعى شؤون أبيها وإخوتها، تمامًا مثلما كانت أمّها الزهراء (عليها السلام) تفعل. ولم يتوقّف إلى هنا دور السيّدة زينب (عليها السلام)، فقد كانت ولا تزال مدرسة من آل بيت النبوّة في قوة المرأة وصبرها وصمودها أمام تحمّل المسؤوليات، ومواجهة التحدّيات والظالمين والمفسدين والمستبدّين، فقد أدّت (عليها السلام) دورًا كبيرًا في نهضة أخيها الإمام الحسين (عليه السلام)، وأكملت ما بدأه، فهي أول من بدأت الدور الجهادي ضدّ الأمويين بعد معركة الطفّ واستشهاد الحسين (عليه السلام)، لكنّها لم تكن تحارب بسيف أو رمح أو نبل، إنّما كانت تقاتل بمنطقها وفصاحتها العلوية الهاشمية المعروفة. عند الخوض في حياة الحوراء زينب (عليها السلام) فسنبحر في سلسلة من الدروس والعِبر، ففي كلّ مرحلة من مراحل حياتها درس وعبرة يُحتذى بها، ولقد تكاملت نواحي العظمة في شخصية السيّدة زينب الحوراء (عليها السلام)، فتجسّدت فيها معالي الصفات ومكارم الأخلاق، وذلك هو سِرّ تفرّدها وخلودها. ................................. (1) السيّدة زينب، رائدة الجهاد في الإسلام: ج3، ص2.