(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ)

رجاء محمد بيطار/ لبنان
عدد المشاهدات : 168

" بسمِ اللهِ النور، بسمِ اللهِ نور النور، بسم الله نور على نور..."(1). وتوالت النبرات الملكوتية مشعشعةً في قلوب نسوة المدينة بذلك الدعاء المأثور، وتتابعت تلقّنهنّ ما يُذهب عنهنّ كيد الحُمّى، ويحفظهنَّ وأهلهنَّ من شرّها المقيت، فيدوّنّ على صفحات القلوب نجواها المتغلغلة في النبض والأنفاس، وكيف لا يفعلنَ وهي بضعة سيّد المرسلين وريحانته، وأمّ سبطيه والمفضّلة لديه؟! ويحملنَ ذخرهنّ الثمين ليعبرنَ القرون والأزمان، ويجتزنَ بخطواتهنّ الحثيثة بابها الخشبي البسيط الذي لم يوصد في وجه سائلٍ قطّ، فهي ممّن: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا )(الإنسان: 8)، ولو كنّ يفقهنَ لغة الجماد لرصدنَ حنينًا وأنينًا، صادرًا عن ذاك الباب الحزين، يروي به لهنّ حكايات مولاتهنّ الطاهرة الرؤوم التي كانت لهنّ ولا تزال أمًّا، مع أنّها تصغرهنّ بسنين... وتتفتّق أوصال الباب عن صوتٍ لا كالأصوات، فيه بحّةٌ وانتحاب: إيهٍ يا سيّدة الأنوار، أيّتها الطاهرة البتول... يجتاحني عصف الشوق لملمس كفّكِ الرقيقة التي أرهقها دوران الرحى، وهزّ المهد من الغروب إلى الضحى، حتى أسعفها الملائكة المقرّبون، وأسأل: "أباب بيتكِ أنا يا منية المؤمنين، أم باب الجنّة !" هذي حلقتي الصامتة التي ما برحت تحتضنها كلّ يومٍ يد أبيكِ النبيّ الأعظم، يستنطقها معلنًا للملأ حقّكم، بنداء الروح الأمين: "السلامُ عليكم يا أهل البيت، إنّما يريدُ اللهُ ليذهبَ عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرًا"، وأحسبني أصغي قانتًا لذاك الصدى المتردّد ما بين الدنيا والآخرة، إذ يجاوبه صوت حلقة باب الجنّة الحادية بهينمتها الآسرة: "يا عليّ...!" هو صوتكِ يا حبيبة المصطفى وبنت خديجته، قد استعارته منكِ تلك الحلقة الملكوتية، مذ انطلق من أعماق روحكِ الساجية خلفي، وأنتِ تهتفين باسم قرينكِ وأبي جنينكِ، فيلبّيكِ والهًا محتسبًا، ليكون شاهدًا على مظلوميتكِ الخالدة، وليلقى مثل ما تلقينه من تلك الطغمة الحاقدة، فتتناجيان وتتآزران، يكفكف أحدكما دمع الآخر وأحزانه، ويشدّ أزره ويدعم أركانه... خلفي تواريتِ عن عيون قومٍ ما حفظوا للحقّ ذكرًا، واحتضنتكِ أوتاري لتعزف أنشودة الحقّ وترًا، فتكسّرتِ ونزفتِ آخر رمقٍ من دمائكِ المسفوكة هدرًا، فوا أسفاه لما أصابكِ منهم ومنّي، حتّى غدوتُ لقلبكِ العظيم مهشّمًا ضلعكِ كسرًا، فعذرًا ثم عذرًا، فما أنا إلّا جمادٌ لا حول لي ولا قوة، يطوّعني لإرادته كلّ جبّارٍ عنيد... ولكن لا! أشهد أنّي تململتُ تحت قبضته، وتزلزلت أركاني دون غضبته، ووددتُ أنّي كنتُ نارًا ورمادًا يتهاوى قبل أن أؤذيكِ يا حبيبة المختار وبضعته، ولعلّ جزءًا ممّا تمنّيته كان، فلقد أتوا بالنار ليحرقوني، عساهم يئدون ذكر آل محمّد، ولقد أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ولكنّ الله أبى إلّا أن يتمّ نوره، فتكامل الصبر بدرًا في فناء الدار، وتكاتفت الأجساد الطاهرة؛ لتزيل ما جرى عليكِ ما بيني وبين الجدار، ولففتِ أي بنت الرسالة على وجهكِ المصفوع غدرًا وعينكِ المحمرّة قهرًا ذاك الخمار، وهرعتِ لتلحقي بالإمامة قبل أن يتلقّفها الغاصبون، ويغتالوا سيّد الدار بعدما اغتالوا الكرامة، وقد نسوا الله فأنساهم أنفسهم، وما أسرّوا إلّا الندامة. مولاتي، لقد شهدتُ بما جرى، وشهقتُ حسرةً إذ ارتميتِ بحملكِ فوق الثرى، وبكيتُ لبكائكِ ليلًا ونهارًا، تذكرين أباكِ تارةً وحقّكِ المسلوب طورًا، ثم شيّعتُ آخر شعاعٍ من أشعّتكِ الغاربة في تلك الليلة الساجية النادبة، حينما أسلمتِ روحكِ لبارئكِ وأنتِ على مَن ظلمكِ غاضبة، وحملتكِ أيدي حبيبكِ الأبدي وحَسَنيكِ اليتيمين إلى ذاك اللحد الخفي، ليبقى مأواكِ في قلوب شيعتكِ يرعى أوردتهم الساكبة، ويبثّ فيها خفقة الانتظار اللاهبة، وها أنا ذا لا أزال أردّد للزمان وصاحبه الأبي تلك الندبة الخالدة بلحنها الشجي: (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ...) (التكوير: 8). ....................................... (1) بحار الأنوار: ج43، ص67.