(في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)


عدد المشاهدات : 152

مئة إعجاب، مئتان وخمسون تعليق، إذًا ينبغي أن لا تُمسح هذه الصورة، لقد قُدّرت من قِبل الناس ومنحوها بركة الضغط على شكل القلب الأحمر، وحرّكوا أناملهم على شاشات هواتفهم الملساء ليكتبوا كلمات منمّقة لا تستغرق سوى 10ثوانٍ، 10ثوانٍ كفيلة برفع هرمون الـ(دوبامين)، وتحفيز رغبة الحصول على المزيد من جُرعات البهجة هذه، لا يهمّ مَن الذي يمنح الصورة تقديره، ولا ما علاقته الواقعية معه، ما يهمّ هو أنّ ذاك الذي نشر صورته لم يخرج بخيبة أمل، ويغرق في بحرٍ من عدم الثقة بالنفس بسبب قلّة الإعجابات والتعليقات على صورته الجديدة تلك، والتي أنفق جهدًا ووقتًا كبيرًا لتعديلها وإزالة أيّ شوائب أو عيوب منها. تُحدّد وسائل التواصل الاجتماعي والتطوّر التكنولوجي الذي يزدهر في الوقت الحالي بصورةٍ تثير القلق معايير بشرية شكلية وجمالية لم تُحدّد من قبل بهذا الكمّ من الكثافة والانتشار، حتى بات الفرد يعيش في قلقٍ نفسي ومجتمعي خشية أن لا تنطبق عليه هذه المُحدّدات، وأن لا يصل إلى الصورة النمطية التي لا تعبّر عن رضاه الذاتي بقدر ما تكيّف نفسها وبآليةٍ مضغوطة لتوصل صاحبها إلى الرضا المزيّف الذي يُغدقه عليه الآخرون بوصفه نسخةً طيّعة ومستجيبة للجمع المسيطر من الأقران والأفراد المحيطين به واقعيًا أو إلكترونيًا. يفقد الكثيرون ثقتهم بأنفسهم؛ لأنّهم يفتقدون المعيار الفلاني هذا أو ذاك والذي لا أحد يعلم كيف، ومتى، وأين أصبح مقياسًا قوميًا للجمال والملاحة! يهرع عددٌ ليس بالقليل من الناس في السنوات الأخيرة للحصول على أشكال مقولبة بهدف الظهور بأبهى صورة، وأن ينظر الناس لهم على مواقع التواصل نظرة المنبهر المأخوذ بهذا الجمال الاصطناعي. حين يقول الله جلّ وعلا: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم) (التين: 4)، فإنّه سبحانه يُشيد بعظيم نشأته وحُسن تصميمه لكلّ فردٍ على حِدة، ملامح الشخص هذا جميلة لأنّها تخصّه، لأنّها تصنع وتحدّد هويته، محاولة المحاكاة أو تقليد أيّ شيء منها لن يجعل المُقلّد إلّا نسخةً غير معلومة الملامح، وغير مميّزة لأنّه لم يحتفظ بحُسن تقويم الله له، الأمور التي نعدّها عيوبًا فينا، ما هي إلّا مميّزات تصنع لنا وجودًا لا يشابهه أيّ وجود آخر، بل حتى التوائم المتماثلة تجد في كلٍّ منهما شيئًا يميّزه عن شقيقه، شيئًا يجعل الأشخاص الذين يعرفونهما يسهل عليهم التمييز بينهما. يسهّل الطبّ الحديث والتطوّر الذي يشهده على كثير من الأشخاص الذين هم بحاجة ماسّة إلى تصحيح عيب خُلقي واضح، أو معالجة تشويه نتج عن حادثٍ ما، فبينما يلجأ كثيرون إلى تغيير ملامحهم والتلاعب بهوياتهم، يحتاجُ آخرون هذا البذخ المالي لتحسين ما يحتاجون تحسينه فيهم، ولعلّ الرفاهية الاقتصادية لبعض طبقات المجتمع تدفعهم إلى استحداث أمور جديدة تضيف لهم طابعًا من التغيير، وكسر الروتين الذي اعتادوا عليه، ومن ضمنه صورهم في المرآة ! إنّ حُسن التقويم الذي جُبل الخلق عليه هو المعيار الأوحد للجمال الروحي والجسدي، فخالقُ هذه الأجساد هو أدرى بقيمتها، وهو أعلم بأنّ لكلٍّ قالبٌ يتفرّد به عن سائر الخلق، فـ: أيّ هذا الشاكي وما بكَ داءٌ كن جميلًا تَرَ الوجودَ جميلا (1) ............................... (1) ديوان إيليا أبو ماضي: ص24.