لِأَحدِهِم..
ثمّ إنّكَ أصبحتَ ترنو للحياة من بعيد، كدرويش يسكن قمّة جبل، ويقطن في كهف صغير. كلّ الأحداث التي جرت في حياتكَ تتدلّى أمامكَ كالفوانيس المضيئة بألوان مختلفة، أصبحتَ تصمت بسخاء، ليس هربًا من واقع صعب، ولا حزنًا على ماضٍ جميل، وإنّما هو النضج يا صديقي. وتتساءل في قرارة نفسكَ: كيف باستطاعة الإنسان أن يتغيّر في كلّ مرحلة عمرية معيّنة، ويتشكّل بشكل مختلف كالصلصال؟! وأحسب أنّ العمر لا علاقة له بالسنين، بل هي التجارب والمواقف التي تشرّبت في داخلكَ، فاستبدلت ما استبدلته فيكَ، ونحتت روحكَ مثلما تفعل الرياح في أعالي الصخور، أنتَ تدرك جيدًا أنّكَ الآن بنسخة جديدة، وما هذا الهدوء الذي يغمر خلاياكَ إلّا فتات العواصف التي واجهتها يومًا ما لوحدكَ، من دون أن يعلم بها أحد، فاقتطعت منكَ ما اقتطعته، وركبت المواقف الصعبة في نفسكَ كشريط تسجيل مصوّر ترجعه على مهل في ذاكرتكَ كلّما سنحت لكَ فرصة الجلوس معها، شرود عينيكَ مخلب تتصيّد به المقابل، لا لتنال منه في حوار أو نقاش، بل لتتجنّب أيّ طاقة شرّ أو أذى قد تحيط بالمقابل فتصلكَ. لقد اغتسلتَ كثيرًا بالأحزان، ولا أحد يدري بذلك. أنتَ مبلّل بالوجع ! لكنّه ثمّة شيء واحد كان يجفّفكَ، ويبعث الدفء في وجدانكَ رغم كلّ الجياد الجامحة التي تركض في صدركَ. كنتَ توقفها بتنهيدة واحدة متّصلة نحو السماء. مناجاتكَ القلبية مع الله، وتعلم أنّكَ لستَ صاحب محراب وعبادات طويلة. بيد أنّكَ تملك قلبًا فضيًا مجلوًّا، تنزلق منه الملكات الباطنية السيّئة، صفاء سريرتكَ، هذا ما كان ينجيكَ في كلّ مرّة.. وسيبقى.