مِيزانُ الإنسانِ

خلود ابراهيم البياتي/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 212

كلّنا نعلم أنّ هذا الكون الفسيح بما يحتويه من كواكب ومجرّات وعوالم بأدقّ تفاصيلها، لا نعرف عنها إلّا النزر القليل جدًا من المعلومات التي تمكّن العقل البشري القاصر من الوصول إليها في ظلّ الإمكانات المتاحة، كلّ ذلك خلقه الله البارئ المصوّر بقَدَر مثلما قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (القمر: 49)، ولكلّ أمر مهما رأيناه بسيطًا، إلّا أنّ له قيمة كبيرة بحدّ ذاته، ولو تجوّلنا لبرهة من الزمان في مخيلتنا ولاحظنا ما حولنا من نِعم، وغصنا في أعماق أنفسنا وأبداننا لما وجدنا غير جملة (سبحان الله العظيم) مغلّفة بسيل منهمر من الدموع على ما نراه من مشاعر عدم الرضا والتذمّر المستمرّ من البعض. تحضرني الآن الكلمات النورانية ذات الأثر البالغ لما تتضمّنه من رسالة، لو تمّ تطبيقها لتغيّرت كثير من الظواهر السلبية من حولنا، حيث قال الإمام عليّ (عليه السلام): "قيمة كلّ امرئ ما يحسنه"(1)، كيف يتسنّى للإنسان أن يمرّ على تلك الكلمات مرور الكرام أو أن يتجاهلها؟! بل والأشدّ مرارة من ذلك، كيف يمكن للبعض أن يعمل بعكس ما تحتويه؟! حيث أشار (عليه السلام) إلى قيمة الإنسان الحقيقية التي تعبّر عن ذاته وتوجّهاته وارتباطه بمصدر القوة والطاقة الدائم الذي يسعى الجميع لكي ينال رضاه بقبول الأعمال، نعم، إنّ قيمة كلّ إنسان هو ما يقوم بفعله بمهارة وإتقان على مختلف الصعد والنواحي، ولا يقتصر ذلك على اتجاه واحد، فالمعلّم قيمته بمدى شعوره بمسؤوليته في صياغة أفكار وأهداف تخدم مستقبل التلاميذ، وقيمة الموظّف في كيفية إنجاز العمل في الوقت المطلوب وعدم التهاون به، واحترامه لمَن يطلب منه الخدمة، وقِس على هذا جميع أفراد المجتمع. مَن يقرأ رسالة الإمام (عليه السلام) بلا تحيّز، فسيجد أنّه لا معيار لقياس مدى أهمّية الإنسان في هذه الحياة غير عمله الصالح والمتقن، فلا منزلة العائلة الاجتماعية، ولا المستوى المادي يؤثر في درجة ارتفاع أو انخفاض قيمة الإنسان في سجّل أعماله، ولا يمكن للألقاب العلمية أو الشهادات العليا أن تكون سندًا أو تعزيزًا للشخص ذاته، فكلّ سنوات الدراسة مثلًا التي قضاها للوصول ستذهب هباءً منثورًا عند أول تعامل سلبي مع الآخرين، فكلّ إناء بما فيه ينضح، والأصل في التعامل مثلما قال الله (سبحانه وتعالى): وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (آل عمران: 159)، فبالأخلاق الحسنة يصل الإنسان إلى قلوب الآخرين وتميل إليه، وترتفع الأيادي بالدعاء أينما تمّ ذكره ولو بعد سنوات طويلة، وذلك لتركه بصمة مشعّة ذات أثر بالغ لا يمكن أن يندثر. وحريّ بنا حين نتحدّث عن ميزان الإنسان، أن نضع أمام أعيننا القدوة الصالحة والأسوة الحسنة، ومَن لنا أفضل من رسولنا الكريم (صلّى الله عليه وآله) والأئمة الهداة الميامين (عليهم السلام) في كلّ نواحي الحياة لنستعين بهم على مرارة الدنيا وتقلّبات الأنفس، لنضع أفكارنا وأعمالنا في ميزان رضا الله (سبحانه وتعالى) ونُقيّم كلّ شيء على حسب القاعدة الذهبية لقيمة الإنسان، ألا وهي (ما يُحسنه) فأحسِن التفكير والصنع والعمل، وكُن مبادرًا إلى كلّ خير، الذي لا تنضب ينابيعه ولا تجفّ أبدًا؛ لترجح كفّة العمل الصالح، ويدبّ السلام والاطمئنان في قلوبنا ومن حولنا. ..................................... (1) ميزان الحكمة: ج1، ص57.