رياض الزهراء العدد 178 لحياة أفضل
الحُبُّ الإلهيُّ والعِبادَةُ
العبادة محور الحياة وأساس الطاعات، وسبب زيادة الحسنات ومحو السيئات، ومضاعفة الأجور ورفع المنازل والدرجات، إنّها العبادة التي أراد الله تعالى أن تكون كلّ حركاتنا على أساسها، ومسيرتنا حول محورها، وخطواتنا مصبوغة بصبغتها: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162)، فالعبادة اسم جامع لكلّ ما يحبّه الله تبارك وتعالى ويرضاه، فلا تنحصر في السجّادة والصلاة، ولا في الصوم ومعناه، بل تتّسع لتشمل الكون وما حواه، عندها يقوم المرء بأيّ عمل ابتغاء وجه الله جلّ في علاه، ولا يريد شيئًا سواه، فيخلص في قصده، ويتألق في نيته وعمله، وينحر هواه بسكين المجاهدة لمولاه، فينطق كلّ وجوده بعد أن يستعمر الحبّ الإلهي قلبه: ربّاه... ربّاه... ومن هنا ينطلق المرء المحبّ لمولاه فيترجم الحبّ هديًا وصلاحًا، ويجعل العبادة شعارًا ومنارًا في بيته وأسرته، وفي تعامله مع مَن حوله، فيكدّ على عياله ويرى ذلك عبادةً؛ لقول النبيّ (صلّى الله عليه وآله): "العبادة سبعون جزءًا، وأفضلها جزءًا طلب الحلال"(1)، ويغضّ طرفه ويرى ذلك عبادة؛ لقول الإمام عليّ (عليه السلام): "غضّ الطرف عن محارم الله سبحانه أفضل عبادة"(2). ويتعامل مع الآخرين بأخلاق حَسَنة ويرى ذلك عبادة؛ لقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "إنّ من العبادة لين الكلام وإفشاء السلام"، وغير ذلك من الأخلاق، فهي أكثر من أن تُحصى. وعليه فالعبادة الحقيقية تنمو فيها الروح وتزداد قربًا ويقينًا وإخلاصًا، ثم يُترجم ذلك سلوكًا إيمانيًا راقيًا يشمل حياة الإنسان كلّها، بحيث ينعكس على شخصيته ونضجه ووعيه ويجعله مباركًا أينما كان. وبالعبادة وفق هذا المعنى الدقيق يتعمّق معنى العبودية لله تعالى في النفس الإنسانية، فيتحوّل العبد إلى روح تعرج في تطلّعاتها وأشواقها، وذات تنفتح على الله تعالى بمشاعرها وأفكارها وخطواتها، وجسد ينقاد لإرادته سبحانه في أقواله وأفعاله كلّها مهما كانت تبعاتها. والعبادة هنا تجعل العبد يشعر بقوته وضعفه، فهو قوي من جهة؛ لأنّه متعلّق بربّه لائذ به متوجّه إليه، وضعيف من جهة أخرى؛ لأنّه منكسر بين يديه ومتّكل بكلّه عليه، ومن هنا فهو لا يراها شكلًا أو طقسًا جامدًا، بل يراها روحًا تتحرّك في جميع أنحاء حياته؛ لتدلّه على مراد محبوبه، فيستجيب ممتثلًا راغبًا. وهنا ستسهم العبادة في بناء شخصية العبد فتجعله واعيًا متكاملًا، تطهّر ذاته من أمراضها، وتسلّط الضوء على عللها وإخفاقاتها، وتعينه في إنقاذها من وحل خطيئاتها، وترسم له السبيل للارتقاء بها، حتى يكون باطنه كظاهره، ويحدث الانسجام الكامل بين الشخصية والقِيم والمبادئ السامية، ومن هنا يحقّ لمَن وعى معنى العبادة بحقيقتها أن يترنّم بقول أمير المؤمنين (عليه السلام): "إلهي، كفى بي عزًّا أن أكون لكَ عبدًا، وكفى بي فخرًا أن تكون لي ربًّا، أنتَ كما أحبّ فاجعلني كما تحبّ"(3). .................................... (1) ميزان الحكمة: ج3، ص8. (2) المصدر السابق: ج3، ص13. (3) المصدر السابق: ج1، ص57.