الثَّقافَةُ الأُسَرِيَّةُ والتَّربِيَةُ الصَّحِيحَةُ

نرجس مهدي/ كربلاء المقدسة
عدد المشاهدات : 212

تنطلق عملية التربية من منطلقات مختلفة باختلاف الثقافات المعاشة، فالأبوان اللذان يعيشان أجواء العلم والمعرفة، واللذان يعيشان الطمأنينة والتفاهم، ويعدّان الاقتران المقدّس مشروعًا حياتيًا للاستمرار والبناء تختلف نظرتهما للتربية عن الأبوين في وسط أمّي، ممّن يعدّون الزواج صفقة تجارية، وتكون حياتهما مليئة بالشجار المستمرّ والنقص العاطفي الذي لا يثمر أبناء أصحّاء نفسيًا. ومن هنا على كلّ أب وأمّ أن يراجعا حساباتهما بشكل دقيق، وينظرا بعين واقعية إلى الهدف الذي كان وراء ارتباطهما، فالتربية ليست مجرّد نظريات علمية يصوغها التربويون، وإنّما هي واقع عملي سلوكي يعيشه كلّ فرد، وبكلّ لحظة. ويمكن أن نبيّن أمرًا مهمًّا، ألا وهو أنّ التربية من نوع الموجود التراكمي التدريجي لا الدفعي؛ بمعنى أنّها عملية تشترك فيها أطراف كثيرة تتشابك فيما بينها؛ لتنتج رؤية معيّنة لدى الطفل، ثمّ تتحوّل فيما بعد إلى سلوك عملي، ربّما يستمرّ معه طوال حياته. وأول خطوة للتربية تبدأ من نظرات عيون الأبوين لأولادهما؛ فالعين وسيلة يُعبّر بها في العمر المبكر من حياة الأطفال عن المحبّة والحنان، والقبول والرضا، ثم تتبعها الكلمات التي يتداولها الوالدان في حياتهما اليومية، ثم يأتي دور الأصدقاء في المدرسة، والمجتمع. كلّ واحدة من تلك المؤثرات تضيف شيئًا جديدًا لنظريات الطفل وإن كان صغيرًا جدًا، مثل النظرة، الكلمة أو موقف ما. وكلّ تلك المؤثرات تتراكم بالتدريج، وتتجمّع في ذهن الطفل لتتحوّل فيما بعد إلى سلوك يقود حياته. وبما أنّ الطفل هو اللبنة الأولى لبناء الأسرة في المجتمع، وهذه اللبنة تكون هشّة في بدايتها، توجّب على الوالدين أن يشكّلا هذه اللبنة بالطريقة الصحيحة؛ لأنّهما المسؤول الأول عن العملية التربوية، فبإمكان الوالدين أن يصنعا من ابنهما قائدًا للمستقبل، أو عالمًا، بدلًا من الجاهل، أو الذي يقف حَجَر عثرة في الطريق تضرّ ولا تنفع. "وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية"(١)، قاعدة وضعها أمير المؤمنين (عليه السلام) للوقوف بوجه من يظنّ أنّ التربية عملية تلقائية تقودها الظروف الخارجية لوحدها، إنّما هي عملية اختيارية يقودها الإنسان باختياره. نعم، وإن كانت العملية الاختيارية تتداخل بها الكثير من المؤثرات غير الاختيارية. فالوالدان أول المؤثرات في الطفل، وكذلك الأعراف والتقاليد وإن لم يخترها، فهي من المؤثرات غير الاختيارية؛ لكن مع كلّ ذلك تبقى الكلمة الأخيرة للإرادة والاختيار. فللوالدين الحقّ في توجيه سلوك الأولاد ولو على نحو المقتضى والسبب، ومن ثمّ تكون مهمّة الوالدين هي مساعدة الأبناء في توجيه اختيارهم نحو الجهة الصحيحة، بعيدًا عن الأخطاء السلوكية على جميع المستويات الشخصية والاجتماعية، وبعيدًا عن الجبر الذي يعدم الإرادة، وهذا التوجيه يمثّل الوجه الآخر للتربية وهو الوجه الاختياري والأهمّ فيها. ومن العبء الكبير الذي تتحمّله الأسرة في تنشئة أبنائها تنشئة اجتماعية سليمة، وتكوين شخصيتهم بأبعادها المختلفة تكوينًا سويًا، يتّضح لنا ما على الأسرة من مسؤوليات في زمان نشط فيه البحث العلمي عن الطفولة، فكشف لنا جوانب كثيرة كانت غامضة، وقد تغيّرت الحياة الاجتماعية في هذا الزمان كثيرًا تغيرًا أثّر في بناء الأسرة ووظائفها، وفي علاقات أفرادها كثيرًا. .................................... (1) نهج البلاغة: ج٣، ص40.