رِجَالٌ لا يُقَدَّرونَ بثَمَنٍ

هيام خضيّر الجشعميّ/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 150

هناك أناس في سيرة حياتهم دروس وعِبر، ومن تلك العِبر قصّة مجاهد عراقي غيور، رجل من رجال معركة الدفاع عن الوطن ومقدّساته، الذي كرّمه الله وختم له حياته بالشهادة، إذ قدّم أسمى معاني الإيثار والتضحية وأنبلها. ذلك المواطن البسيط الذي لا يملك شيئًا من الدنيا غير زوجة صالحة وثلاثة من الأولاد الصغار، لكنّ جميعهم مرضى. خرج من داره حاملًا همومًا أثقلت كاهله، وهو متوجّه إلى ساحات القتال استوقفه على قارعة الطريق أحد جيرانه الذي عاشره فعرفه بدماثة الخلق وحبّ مساعدة الآخرين، اعتادا يوميًا سماع فصول الأذان وتراتيل القرآن تصدح بها حنجرته. ودّع جاره موصيًا إياه بوالديه المسنّينِ وبأطفاله، التفت وراءه وجال ببصره هنا وهناك، لم يجد غير مساكن بسيطة متفرّقة شيّدها أصحابها بعرق جبينهم، وتراءى له ابنه الصغير يقف خلف نافذة غرفتهم التي كانت بدون زجاج، يرمقه بنظرة مزجت بين ألم الفراق والاعتزاز، تأمّل وجه الولد الصغير مليًا ليتساءل في نفسه: ماذا لو أصابته أيام غيابه نوبة إغماء نتيجة مرضه؟ وهو لم يترك لدى أمّه مبلغًا تراجع به المستشفى وتشتري به الدواء، وأطلّت عليه ابنته الوحيدة وقد اعتلى محيّاها الحزن والوجوم، تخفي بيدها ورمًا بان في رقبتها تضخّمًا للغدّة الدرقية وهي بحاجة إلى عملية جراحية، لكنّه لا يملك تكاليف تلك العملية، وتذكّر طفله الرضيع الراقد في المستشفى، ولكنّه منذ أيام وهو ينتظره ليعود به إلى البيت، وقف دقائق يراجع نفسه ويخيّرها بين رعاية أولاده الثلاثة المرضى وبين تلبية نداء الوطن الذي ينزف من جراحاته. وهنا سمع صوت زوجته الصابرة المؤمنة تقول مستنهضةً عزيمته وإيمانه: لا تقلق، فللأطفال أمّهات ترعاهم، ولا بدّ للوطن من رجال يدافعون عنه، تذكّر إمامكَ الحسين (عليه السلام)، هل ترك القتال لكي يبقى مع ابنه العليل زين العابدين (عليه السلام) في خيمته؟ وهل تركه من أجل ريحانة فؤاده فاطمة العليلة؟ لقد ترك الإمام الحسين (عليه السلام) لمحبّيه درسًا ما بعده درس في ترك الأهل والأحباب تلبيةً لنداء الواجب، اذهب يا زوجي إلى الجبهة ولا تهتمّ لما يعانيه الأطفال من أمراض، فأين هي من أمراض الضمائر؟! الذين خانوا أرض العراق وثرواته وشعبه، اذهب وناصر إخوتكَ المدافعين؛ لتمنعوا الإرهابيين من أن يدنّسوا مقدّساتنا وينتهكوا أعراضنا، اذهب وأوقف المجازر التي أزهقت آلاف الأرواح البريئة، منها أرواح الأطفال ممّن هم في أعمار أطفالكَ الثلاثة. سارع هذا البطل إلى ساحات الدفاع ونال بعد أيام من القتال الضاري مع عصابات داعش وسام الشرف والعزّة والكرامة، وسام الشهادة، تاركًا وراءه زوجة صالحة وثلاثة أطفال مرضى، هذه حكاية شهيد تحمّل معاني الصبر والإيثار. إنّنا لنستصغر أنفسنا ونشعر بالخجل أمام هذه النماذج الرائعة من الذين بلغوا القمّة في إيمانهم وأخلاقهم، ونقف لهم أجلالًا وعرفانًا.