(هُدًى وَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) (1)
من أعظم نعم الله تعالى علينا العقل، فبه أكرمنا وبه فضّلنا على كثير ممّا خلق، بالعقل ندرك الحقائق، نفكّر، نتفكّر وهو سمة للشخصية المتوازنة القوية والقادرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، والتفكّر من الدعائم الأساسية لبناء شخصية متماسكة متّزنة، وروح قوية وشفّافة، تؤمن بالله تعالى الواحد الأحد، تنظر، تُفكّر، تُميّز الخطأ عن الصواب، روح تدرك آلاء الله تعالى فتشكره، تعرف عظمة الله تعالى فتسبّحه، تثق بقدرته فتعتمد عليه، تستشفّ رحمته فتلجأ إليه، روح سامية، تسير بخُطىً واثقة، مثلما أرادها الله تعالى...هذا الموضوع كان محور حديث تجاذبت أطرافه الثلّة الطيّبة: أمّ زهراء: لله تعالى الحمد والشكر، وصدق مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ يقول: "فِكْرُكَ يَهْديكَ إِلى الرَّشادِ..."(2)، فلله الحمد أنّي اتّخذت القرار الصائب. أمّ جعفر: إنّه حقًّا لفضل عظيم من الله تعالى، فقد يتّخذ الإنسان قرارًا تكون عواقبه وخيمة فـ "الْفِكْرُ فِي الْعَوَاقِبِ يُؤْمِنُ مَكْرُوهَ النَّوَائِبِ"(3)، هذا ما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام). أمّ عليّ: ليس هذا فقط، فالتفكّر يا أخواتي يجعل شخصية الإنسان تتّسم بالوقار والاتّزان، فيكسب احترام المقابل، وكلامه وآراؤه تكشف عن عقل راجح، وشخصية متّزنة ومؤثّرة. أمّ حسين: كثيرًا ما كانت تستوقفني وأنا أقرأ كتاب الله الكريم كلمة (يتفكّرون)، فاستشعر منها الثناء على مَن يتفكّر، فيقول جلّ وعلا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنا عَذَابَ النَّارِ(آل عمران:190، 191)، فمَن يتفكّر في خلق الله تعالى، وعظمته، وقدرته؛ فسيؤدّي العبادة بروحه، وقلبه، وجميع جوارحه؛ فيصبح التفكّر سببًا في إجابته من قِبل الله تعالى: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ.. (آل عمران: 159). أمّ عليّ: كلمة (يتفكّرون) جاءت في آيات كثيرة وكأنّها نداءٌ خاصٌّ لأهل التفكّر: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.. (الجاثية:13)، وهي دلالة على أهمّية النظر فيما حولنا من آيات الله تعالى، ربّما يغفل عن إدراكها كثير من الناس. أمّ زهراء: أحسنتِ، فإنَّ مَن يتفكّر في خلق الإنسان، والسماوات، والأرض، وما فيها من أنظمة دقيقة وعجيبة، فسيعلم أنّ للكون خالقًا، عظيمًا، مدبّرًا، حكيمًا، تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِم ۗ مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى (الروم:8). أمّ حسين: وقد أولت العترة الطاهرة (عليهم السلام) التفكّر أهمّية كبيرة: "التفكُّرُ حَياةُ قَلبِ البَصيرِ"(3)، مثلما عبّر الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام). أمّ عليّ: ولأنّه يحيي القلوب فيجعلها مبصرة بنور الإيمان، فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) يشير في حديث آخر إلى أنّ: "فِكْرَةُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ، وَلَا يَنَالُ مَنْزِلَةَ التَّفَكُّرِ إِلَّا مَنْ قَدْ خَصَّهُ الله بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّوْحِيدِ"(4). أمّ حسين: ولأهل الفكر منزلة خاصّة مثلما يقول إمام المتّقين (عليه السلام): "التفَكُّرُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عِبَادَةُ الْمُخْلصِينَ"(5). أمّ زهراء: يا الله... أمّ جعفر: إنّه ديننا القويم: دين العقل والحكمة، دين الفطرة السليمة والروح المرتبطة ببارئها. ........................... (1) سورة غافر: 54. (2) غررالحكم ودرر الكلم: ج1، ص21. (3) بحار الأنوار: ج74، ص135. (4) بحار الأنوار: ج68، ص126. (5) ميزان الحكمة: ج3، ص8.