ارتباطُ ناصِيَةِ الإنسانِ بِسُلوكِهِ في المَنظُورِ القُرآنِيّ

ابتسام سلمان الشحماني/ النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 5690

البعض يندهش عندما يسمع عن علاقة الناصية بسلوك الإنسان! نعم، لقد أثبت القرآن الكريم والأحاديث الشريفة بأنّ تصرّفات الإنسان التي يقوم بها تتمركز في أعلى مقدّمة الرأس، ليس الإنسان فقط، بل كلّ دابّة! قال الله تعالى: (نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) (العلق:16) وقول النبيّ (صلّى الله عليه وآله) : "اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ..."(1). وجاء في معنى الناصية: "الناصِيَةُ والناصَاةُ، لُغَةٌ طيئِية: قُصاصُ الشَعرِ فِي مُقدَّم الرأْس"(2). الناصية عند العرب منبت الشعر في مقدّم الرأس، لا الشعر الذي تسمّيه العامّة الناصية، وسمّي الشعر ناصية؛ لنباته من ذلك الموضع. وقد وصف القرآن الكريم (الناصية) بأنّها كاذبة خاطئة، والناصية لا تنطق، فكيف يُسند إليها الكذب؟ ولا تجترح الخطايا، فكيف تُسند إليها الخطيئة؟ أثبتت الدراسات أنّ الإنسان إذا أراد أن يكذب فإنّ القرار يُتّخذ في الفصّ الجبهي للمخّ الذي هو جبهة الإنسان وناصيته، وإذا أراد الخطيئة فإنّ القرار كذلك يُتّخذ في الناصية. إنّ الناصية هي المسؤولة عن المقايسات العليا وتوجيه سلوك الإنسان، وما الجوارح إلّا جنود تنفّذ هذه القرارات التي تُتّخذ في الناصية، وبدراسة التركيب التشريحي لمنطقة أعلى الجبهة في مقدّمة الناصية ظهر أنّها تتكوّن من أحد عظام الجمجمة المسمّى بـ(العظم الجبهي)، ويقوم هذا العظم بحماية أحد فصوص المخّ المسمّى بـ(الفصّ الأمامي أو الفصّ الجبهي)، وهو يحتوي على عدّة مراكز عصبية تختلف فيما بينها من حيث الموقع والوظيفة. وتمثّل القشرة الأمامية من الجبهة الجزء الأكبر من الفصّ الجبهي للمخّ، وترتبط وظيفة القشرة الأمامية للجبهة بتكوين شخصية الفرد، وتعدّ مركزًا عِلويًّا من مراكز التركيز والتفكير والذاكرة، وتؤدّي دورًا منتظمًا لعمق إحساس الفرد بالمشاعر، ولها تأثير في تحديد (المبادأة) والتمييز. إنّ دراسة التشريح المقارن لمخاخ الإنسان والحيوان تدلّ على تشابه في وظيفة الناصية، فالناصية هي مركز القيادة والتوجيه عند الإنسان وكذلك عند كلّ الحيوانات ذوات المخّ(3). مثلما أنّ الناصية لها ارتباط وثيق بواقع الإنسان، فلو شاهدنا الإنسان عند الوضوء يمسح على أعلى رأسه في مقدّمة الناصية، قال تعالى: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ ) (المائدة:6)، أي مسح بعض من الرأس، حيث أكّدت الروايات على أنّ هذا البعض هو يربّع الرأس من مقدّمته، فيجب مسح جزء من هذا الربع باليد حتى لو كان قليلًا. ما الأثر المترتّب من الوضوء على سلوك الإنسان؟ إنّ المفهوم النفسي للنيّة يعني أنّ حركة الإِنسان في أثناء الوضوء التي تبدأ من الرأس وتنتهي بالقدمين هي خطوات في طاعة الله تعالى، مثلما أنّ لها أثرًا نفسيًا ومعنويًا ينطبع في الشخص. وأثبتت الدراسات الحديثة أنّ الوضوء خمس مرّات في اليوم يقضي تمامًا على الصداع، مثلما أنّ مسح الرأس ينشّط مسارات الطاقة المختلفة في الجسم من الرأس إلى القدمين. إنّ منطقة الرأس هي منطقة طاقة الاتصال المحيطي بالآخرين، ففيها الجهاز العصبي، وفيها الدماغ الذي تتّصل به جميع الأعضاء في مناطق مختلفة منه، وهو منطقة كرامة الإنسان. قال تعالى: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ) (الفتح: 29). السجود: هو إلصاق الوجه بالأرض، وهو انحناء الناصية لله تعالى، ولعلّه صار من أحبّ الأعمال إليه؛ لأنّ فيه دلالة على أنّ الإنسان بكلّ تفكيره خاضع لله تعالى لكون الناصية هي موضع التفكير. ...................... (1) بحار الأنوار: ج92، ص279. (2) لسان العرب: ج15، ص327.