"أَسِيرَةُ الأَسِيرِ"
أيّ سحرٍ هذا، وأيّ عجبٍ عجاب؟!... نظرت إلى عجبهم بدون أن تخرج عن ذهولها؛ ولكن لماذا هي؟!... وأيّ فضلٍ لها لتغدو الآن أسيرة ذاك الأسير؟! لقد استدعاها سيّدها، أمير هذا القصر المنيف، وقال لها: أقبلي، فأقبلت، وأدبري فأدبرت، وظنّته طامعًا بوصالها، فصدحت وقدحت زناد عينيها لتشعل نار فؤاده، ولكنّ نارًا أخرى كانت تفحّ لديه وهو يفرك كفّيه قائلًا: هي والله الضربة القاصمة! لم تفهم تمامًا ما عناه إلّا حينما أشار إلى حاجبه (مسرور) وهو يضحك بمجون: خذها إلى أبي الحسن، فلا أظنّ أنّ رجلًا في الكون يستطيع أن يقاوم هذه الفتنة. ساقها (مسرور) إليه وهي تفكّر: تُرى مَن يكون هذا الذي أقلق بال هارون؟! دخلت المكان الموبوء برائحة العفونة والظلام، يفوح من إحدى جنباته عطرٌ وشعاعٌ عجيبان... ارتعشت يداها القابضتان على الوشاح المحيط بكتفيها، وأنصتت لنجوىً عميقةٍ تجتاح القضبان: "اللّهمّ إنّي أسألكَ الراحة عند الموت، والمغفرة عند الموت، والعفوّ عند الحساب"(1). حاولت أن تفقه شيئًا، هي التي ما فقهت منذ أمدٍ طويلٍ إلّا لغو الحديث... انطلق صوت (مسرور) بنبرة متلجلجة يخاطب طيفًا ساجدًا أشبه في نحوله بثوبٍ مطروح: أرسلها مولاي هدية... لخدمتكَ! لقد رفع رأسه من سجوده بعد لأي؛ ليجيب: (بَلْ أنتُم بِهديّتكُم تفرَحُونَ) (النمل: 36)، لا حاجة لي في هذه ولا في أمثالها! "ليس برضاكَ حبسناكَ ولا برضاكَ أخدمناكَ"، كذا يقول سيّدي... ومضى... لقد ظلّت واقفةً حيث هي لساعات؛ هي لم تلقَ قطّ مَن يقاوم سحر عينيها، فالرجال ما فتئوا يتهافتون عليها أذلّاء صاغرين، كبيرهم وصغيرهم، أميرهم ووضيعهم... ولكن لا، بل إنّ هذا الأسير مختلف، فهو ذو مهابةٍ لم تواجهها من قبل، وإنّ في حضوره ما يشعرها بالصغارة، وإنّ في نجواه لربّه ما يبلغ بها أقصى درجات الحقارة.. ـ : أما لسيّدي حاجة فأقضيها له؟ كان صوتها نغمًا نشازًا أقلق تسابيح الملائكة، فأجابها بدون أن يلتفت مشيرًا بيدٍ أنحلها الزهد والقيد: فما بال هؤلاء؟! لم تعِ سوى ذاك المشهد الأخّاذ الذي تجلّى أمامها فجأةً كأنّما انبثق من اللاشيء: (حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (*) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (*) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (*) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 72 - 74). لقد أُلقيت ساجدةً على أديم الندم، وزفرت كلّ خطاياها في دموعٍ وكلماتٍ ناءت بها روحها المغمّسة بالإثم: قدّوسٌ قدّوس، ربّ الملائكة والروح... هي لا تزال كذلك حتى الساعة، وقد أُتي بها إلى هارون ليقرأ عليها آيات خيبته، وقد كان الأجدر به أن يوقظ نفسه من غفلته، ولكن هيهات، فقد ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون. أمّا الجارية التائبة فقد حُبست ليُطمَس أمرها، وقضت في العبادة بقيّة عمرها، وهي تكرّر: هكذا رأيتُ العبد الصالح! وأمّا هارون فهو لم يزل سادرًا في غيّه، حتى سوّلت له نفسه الأمّارة قتل وليّ الله كاظم آل محمّد (صلّى الله عليه وآله)... وأمّا الكاظم (عليه السلام) فقد التحق بآبائه الطاهرين، ورفرفت روحه الطاهرة في عليين، وارتفع صرحه في دنيا العاشقين، فكان عَبرةً وعِبرةً للعالمين، ليروا انتصار المظلوم على الظالم ولو بعد حين. ................................ (1) الكافي: ج٣، ص٣٢٣.