وَمضَةٌ تِلوَ وَمضَةٍ
ما الذي تفعله بنا الوداعات؟ وكيف نعيد بناء أنفسنا بين كلّ محطّة وأخرى؟ كيف نعيد بناء قلعة بعد أن ثُلِم حصنها أكثر من مرّة؟ كلّ وداع جديد يأخذ منّا ما يأخذه، فنحن بقايا وداعات كثيرة، وبعيدة، ورمادية، وموحشة متوغّلة إلى حدّ الروح فينا، لذا أصابع أكفّنا منها لم تعد مكتملة! ومنها: تعريفات خاصّة.. الذكريات.. ركام متكوّم كان لمدينة ما.. الماضي.. طرف صورة متآكلة قديمة مثبتة على مرآة عجوز.. الشتاء.. أن تشرب الليل ليخرج على وجهكَ بوضوح.. شرود العين.. الاعتذار الصادق.. ضمادة قوس المطر بعد المطر.. الهدوء.. درويش يسكن قمّة جبل داخل كهف صغير.. الروح.. قطرة ماء فوق لجّة فضّة.. زهرة بنفسج تتحوّل إلى حقل.. في كلّ مرة أكون متواجدة في سيارة متوقّفة مركونة قرب الشارع، أتأمّل الدنيا بعمق، أعيد فيها صناعة الأحداث المرّة بعد الأخرى، القصص العابرة في الحياة، المواقف غير المكتملة، الأزمنة التي صمتُّ فيها في الوقت الذي كان من المفترض أن أصرخ فيها، وجوه المارّة، هيأتهم، هندامهم، لغة أجسادهم التي تخبر بما لا تفصحه الألسن، كلّ واحد منهم يصلح لأن يكون شخصية في رواية ما، فصانع الخبز العجوز الذي يقابل الفرن وجهًا لوجه، ذو البشرة السمراء الجلد الذي تكسوه التجاعيد، ما هو إلّا مَلِك ينازع الموت في حكاية ينتظر أولاده فيها الاستيلاء على الحكم! وما البائع سوى صيّاد سمك في قرية نائية يحضنها بحر أزرق، تلك المرأة المسنّة التي تمشي على وهن بعباءة بهت لونها محنية الظهر، بنظارة ذات عدستين مقعّرتين بوشم أخضر على كفّيها، هي في عالمي حكيمة أو قابلة في حيّ عتيق، عاصرت حكّامًا وعصورًا متباينة، ترجع إليها النسوة بوصفها مرجعًا مهمًّا لمختلف مجالات حياتهنّ الشعبية البسيطة، لا أحد يمرّ من أمامي مرور الكرام، جميعهم يعيشون بعوالم وأماكن وأزمنة خفية لا يعلمها إلّا الله وأنا! شيء ما يركض في صدري يحشوه بالألم، قلبي يتدلّى بداخله كغيمة خفيفة، والعالم يضيق.