دَائِرتِي الخَاصَّةُ

خلود ابراهيم البياتي/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 179

دوائر كثيرة تحيط بنا، منها المتداخلة أو المتقاطعة، وهناك المتسلسلة والمتتابعة، مثلما أنّ للدوائر المتجانسة والمتلاصقة نصيبًا في الوجود أيضًا، ونحن بني البشر حياتنا لا تتعدّى الدوائر بمختلف أنواعها وأحجامها، فلكلّ منّا دائرة أفكاره ومعتقداته الخاصّة، ودائرة أسرته الصغيرة، ومن ثمّ تتّسع لتشمل البيئة المحيطة به بما تتضمّن من مجتمع وكلّ الموجودات من حوله، بل إنّها تتّسع وتتّسع لنكون نقطة متناهية في الصغر لا تكاد تُرى في هذا الكون الفسيح بكلّ ما ينضوي تحت اسمه المهيب. ومن هنا ننطلق لنتحدّث عن دائرتنا الخاصّة، فمن أهمّ مبادئ الدين الإسلامي الحنيف هو الاحترام الكامل لشخصية الفرد، والتركيز على قيمته الإنسانية وكلّ حقوقه ومميّزاته، ومن تلك الأمور هو جانب (الخصوصية)، حيث إنّ المتتبّع للآيات القرآنية وروايات أهل البيت (عليهم السلام) يلمس التأكيد على عدم التدخّل في شؤون الآخرين، وتعدّه من موارد حسن إسلام المرء، مثلما جاء عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"(1)، فلا يوجد مَن يرغب في أن يتمّ اختراق أسوار حياته الشخصية والانقضاض ببراثن الفضول لتمزيق ذلك الجسد، حيث إنّ تفاصيل حياة الإنسان هي من شأنه الخاصّ الذي لا يملك أحد الإذن في التسلّل إليها بأيّ شكل من الأشكال، ولعلّنا نلاحظ العديد من المعاول الهدّامة على اختلاف أنواعها وأسمائها، تفتك بهذا البناء الذي من المفترض أن يكون حصنًا آمنًا لمَن يسكن في كنفه الدافئ؛ لترديه صريعًا لا يقوى على الحراك أو الدفاع عن نفسه، وذلك عبر مختلف أنواع التدخّل والتعدّي على تلك الدائرة الخاصّة، سواء عن طريق الألفاظ أو عبر الوسائل الإلكترونية الحديثة التي قد أساء البعض استخدامها؛ ليصل بها إلى مآربه الدنيئة من الابتزاز أو التنمّر على الآخرين. ولو أردنا البحث قليلًا عن أسباب هذا الميل للتدخّل السافر في خصوصيات الآخرين؛ لوجدنا عنوان الفراغ الذي يعاني منه الكثير يلوح في الأفق، وليس بالضرورة أن يكون الفراغ هو وجود وقت فائض عن الحاجة، بل من الممكن أن يكون الشخص منشغلًا طوال الوقت في أعمال معينة، لكنّه يعاني من الفراغ الفكري أو الروحي، فيسعى إلى ملئه بأيّ طريقة كانت، مثلما أنّ الشعور بالنقص الذي يسيطر على البعض يؤدّي دورًا مهمًّا في هذا المجال، حيث إنّ هذا الشعور يدفعه إلى ملاحقة مَن حوله لاقتناص أيّ ثغرة من وجهة نظره؛ لكي يعمل على تسقيطه أمام الآخرين، فيحظى بميزة جذب انتباه مَن حوله مثلما يظنّ، مضافًا إلى أنّ عدم تحديد هدف للحياة يجعل الإنسان يشعر بالضياع، فيبحث عن أيّ قشّة لتنقذه، فتكون المتابعة والتلصّص من أهمّ الأمور التي يشعر عن طريقها بأنّه يؤدّي مهمّة مميّزة، فيصبح شغله الشاغل هو كيف يجد ثغرة في دائرة خصوصية الآخرين لينفذ عن طريقها بقوة كالسهم الذي يخترق الجسد ليمزّقه، فتعلو أصوات الاستغاثة من هذا الدخيل الذي حطّم هدوء الإنسان وسلامه. وممّا لاشكّ فيه أنّ ضعف الوازع الديني يشكّل النقطة المهمّة جدًا في مشوار التلصّص على حياة الآخرين، فعند غياب الشعور بالرقابة الإلهية يصبح كلّ شيء من الأمور الاعتيادية للفرد ويمارسها بلا تردّد منه. لذا نجد أنّ العودة إلى حبل الله المتين، والتوجّه إلى منارات الهدى المشعّة دائمًا وأبدًا هو السبيل لاحترام خصوصية الجميع؛ ليشعر أبناء المجتمع بالاستقرار النفسي والطمأنينة، ويحافظ الجميع على دائرته الخاصّة من أيّ اقتحام لها. ........................................ (1) ميزان الحكمة: ج4، ص 115.