(ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (1)
الحياة بتفاصيلها الكثيرة لاسيّما تلك التي تضغط علينا مثل القلق، الإرهاق، الخوف، ربّما تغيّر أمزجتنا وأخلاقنا، وتوقعنا في الخطأ بحقّ أنفسنا وبحقّ مَن حولنا، ومن رحمة الله (تبارك وتعالى) بنا وفضله أن هيّأ لنا مصابيح تنير لنا الطرق المظلمة حتى لا نسقط، وحواجز نقف عندها تحمينا من هفوات التهوّر، وأيادي فيها البلسم لكلّ جراح، بها ندفع الشرّ بالخير، والكراهية بالمحبّة. بهذه الكلمات أمسكت أمّ حسين بيد جارتها أمّ علاء المتّقدة غضبًا، وهي تبسمل محاولةً تهدئتها، فيما أخذت أمّ زهراء بيد أمّ علاء الأخرى، وأجلستها في أقرب مقعد، واجهت أمّ عليّ زفرات أمّ علاء، قائلةً: حبيبتي أمّ علاء، لا شكّ في أنّكِ مثل كلّ المؤمنين الذين يسعون لرضا الله تعالى، أليس كذلك؟ إذن اسمعي حديثًا لمولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): "...فو الّذي فلقَ الحبّة وبرأ النسمة ما أرضى المؤمن ربّه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت...."(2). أمّ علاء: ولكن صدري يحترق غيظًا. أمّ عليّ: إن كظمتِ غيظكِ وتجاوزتِ عن الإساءة فهنيئًا لكِ الأجر العظيم، فعن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: "مَن كظم غيظًا وهو يقدر على إمضائه حشا الله قلبه أمنًا وإيمانًا يوم القيامة" (3). أمّ حسين: إنّه والله لأجر عظيم. أمّ جعفر: وهذا ينبّهنا إلى أهمّية كظم الغيظ والصبر على الأذى، فلو أنّ كلّ إنسان واجه الأذى بأذىً مثله فإلى أين سيصل المجتمع من التدهور والعداء والكراهية؟! إنّه مجتمع لا يُطاق. أمّ علاء: (وهي ترخي عينيها وتهزّ برأسها): رحمتكَ يا ربّ، ولكن قد يتصوّر كثير من الناس أنّ كظم الغيظ من الضعف وعدم القدرة على الردّ. أمّ زهراء: ما يهمّنا هو سلوك ما يحبّه الله تعالى، فعن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: "ما من عبد كظم غيظًا إلّا زاده الله عزّ وجلّ عزًّا في الدنيا والآخرة، وقد قال الله عزّ وجلّ: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (4) وأثابه الله مكان غيظه ذلك"(5). أمّ حسين: أنا أرى أنّ قوة الشخصية واتّزانها هو السيطرة على انفعالات النفس، وبخاصّة الغضب، فهو أقوى عدوّ: "الغضب عدوّ فلا تملّكه نفسكَ"(6). أمّ عليّ: نعم، إنّ الغضب عدوّ؛ لأنّه يؤدّي إلى الندم. أمّ زهراء: إلّا الغضب لله. أمّ عليّ: (مبتسمة ومؤكّدة): إلّا الغضب لله، فإنّه محمود. أمّ جعفر: أختي الكريمة أمّ علاء، علينا أيضًا أن نجد عذرًا لمَن آذانا، فربّما كان عن غير قصد أو عن جهل. أمّ زهراء: فليكن شعارنا ما نُسب إلى الإمام الرضا (عليه السلام): إذا كـان دوني مَن بـليتُ بجهله وإن كان مثلي في محلّي من النهى وإن كنتُ أدنى منه في الفضل والحجى أبيْتُ لنفسي أن تُقابل بـالجهلِ أخذتُ بحلمي كي أجلّ عن المثلِ عرفتُ له حقّ التقدّم والفضلِ(7) أمّ جعفر: وإذا عفوتِ فأبشري بما وعد الله تعالى، فرُوي عن الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام) أنّه قال: "إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثم ينادي منادٍ: أين أهل الفضل؟ قال: فيقوم عُنُق من الناس فتلقّاهم الملائكة، فيقولون: وما كان فضلكم؟ فيقولون: كنّا نصل مَن قطعنا ونعطي مَن حرمنا، ونعفو عمّن ظلمنا، قال: فيُقال لهم: صدقتم، ادخلوا الجنّة"(8). ما إن أكملت أمّ جعفر الحديث حتى قامت أمّ علاء من مكانها، فأمسكتها أمّ عليّ مستغربةً قائلةً: إلى أين حبيبتي؟ فأجابت أمّ علاء: مع كلّ هذا الكرم الإلهي سأذهب إلى جارتي لأصالحها. أحاطتها الثلّة الطيبة بمحبّة، وباركت لها حبّها لله ونقاء سريرتها، وخُتم المجلس بهمهمة الحمد والشكر لله تعالى. ................................................. (1) سورة فصّلت: 34. (2) مستدرك سفينة البحار: ج2، ص 382. (3) الكافي: ج ٢، ص 110. (4) آل عمران: 134. (5) الكافي: ج ٢، ص 110. (6) مسند الإمام عليّ (عليه السلام): ج 10، ص 241. (7) عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج1، ص192. (8) بحار الأنوار: ج 68، ص 400.