نحنُ الوطنُ


عدد المشاهدات : 112

كلّما ذُكر اسم الوطن، تعود الجراح لتتفتّق، وتمتلئ الأحداق بالندى، ننسى حينها كلّ شيء، ففي حضرة الوطن، يصمتُ الكون، وتخرس جميع الأشياء، ولا يبقى غير صوت نبضنا، مشاعرنا المتدفّقة نهرًا من الحنين، ومثلما قال محمود درويش: "...يفهم- قال لي - إنّ الوطن أن أحتسي قهوة أمّي أن أعود في المساء..."(1) فما لنا نُضيّع الوطن! لنتيه بعده بلا بوصلة سلام، أو معرفة الجهات الأربع، لمَ أمسينا نتقاسمه مثل ثمرة برتقال، وهو لا يريد منّا إلّا أن نكون شجرة واحدة، جذورها في الأرض متشعّبة وفروعها ضاربة في عنان السماء، لا يُريد منّا إلّا أن نكون متشبّثين به، ولا نبيعه بثمن بخس في المزادات الدولية، بعد أن كان دفؤنا في مهدنا، وتعويذة اعتدنا أن نغفو على أنغامها، والضوء الذي لطالما آمنّا بأنّه سيبزغُ في نهاية النفق. فكيف يهون علينا أن ننكث بعهدنا له، عهدنا الروحي بأنّه سيظلّ أبًا لنا، وأنّنا سنظلّ أبناءه البارّين به، كيف نرمي بوعدنا عرض الجدار ونمضي غير مبالين إلّا بأنفسنا؟ كيف طغت علينا تلك الأنانية الجارفة واللاإنسانية المخيفة؟! فأمسينا لا نُفرّق بين حبٍّ وبغض، أو حقّ وباطل، أصبحنا نعيش فقط لكي نحيا، وننتظر الغد فقط لكي ينقضي، مثلما ينقضي اليوم. أصبحت قضية الوطن بالنسبة إلينا قضية خاسرة، وتجارة مصيرها الحتمي هو الإبادة والكساد، بات الوطن اليوم ليس سوى كلام الأجداد الذي نسمعه منهم، وكلمات منقوشة على كتاب قديم مهترئ لا يقلّب صفحاته أحد. لم يعد الوطن مثلما كان سابقًا: قهوة صباحية، أشجار ليمون وسدر، أزهار سوسن ونرجس، سماء طاهرة زرقاء، وبعضًا من نسيمٍ ربيعي، بل أصبح فيلمًا قد سئمنا مشاهدته. إنّ أرضنا لتتألم حين ترى الكُره في قلوبنا عامرًا والحقد في بيوتنا حاضرًا، هذه الأرض برمالها الطاهرة لا ترجو منّا إلّا صحوة لضمائرنا، وإشراقة للشمس في أرواحنا، تريد منّا أن نقف متأهّبين لنقول لها: (نحن لكِ، وسنحييكِ)، لا لكي نموت وتمتزج دماؤنا بثراها، بل لكي نحيا ونُحييها، ونُعيد ذكراها، ونُوقد فيها قناديل من الأمل. يقول الشاعر أحمد مطر: "نموتُ كي يحيا الوطنْ يحيا لمنْ! من بعدنا يبقى التراب والعفنْ نحن الوطنْ"(2) نعم نحن الوطن، ونحن مَن يجب أن نُعيد إليه بسمةً فقدها، لا نُريد أن نجرّب كلّ الاعتصامات، نريد اعتصامًا واحدًا فقط، مثلما جاء في قوله تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103). ................................ (1) الديوان، الأعمال الأولى: ج1، ص203. (2) المجموعة الشعرية لأحمد مطر: ص128.