رياض الزهراء العدد 179 منكم وإليكم
تَأثِيرُ الأُمِّ في الطِّفلِ
محور الحياة، صانعة الأجيال، ناشئة الأمم، العطاء بمدلوله الإنساني الربّاني، والكثير الكثير الذي يندرج تحت كلمة واحدة، ألا وهي الأمّ التي تتمحور وظيفتها في صناعة الإنسان، غرس كريم مبارك في قلب الحدث وعقله ووجدانه، ينبت قيمًا أخلاقية ومعايير تربوية ونهج حياة؛ لذلك نجد أنّ المعصومين (عليهم السلام) قد اهتمّوا بشكل أساسي باختيار الزوجة التي تتمتّع بالصفات الحميدة التي يمكنها أن تنقلها بعد ذلك إلى أبنائها، فهذا أمير المؤمنين (عليه السلام) قد اختار السيّدة أمّ البنين (عليها السلام) ليُولد له العبّاس الشجاع، وفي السياق نفسه نجد الإمام الهادي (عليه السلام) قد ركّز بشكل أساسي على انتقاء زوجة مناسبة لابنه العسكريّ (عليه السلام)، ذات طينة طاهرة مؤهلة لأن تكون أمًا لشخصية بمستوى الإمام صاحب الزمان (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، هذا كلّه يدلّ على أهمّية الأمّ ومدى تأثيرها في حياة وليدها، فكان أن اختارها من سلالة كبير حواريّي عيسى (عليه السلام)، وأشدّهم إخلاصًا لدين الله (عز ّوجلّ) ولنبيّه. إنّ رحلة التربية تبدأ في مراحل ذكرتها الروايات، أي من قبل انعقاد النطفة، مرورًا بصيرورتها جنينًا إلى مرحلة الولادة وما بعدها، إذ إنّ هذه المراحل لها عناوينها المؤثرة في شخصية الطفل، وتمهّد له الطريق لاكتساب صفات الكمال، سواء كان على المستوى الجسدي أو المعنوي، وجلّ ما تلتفت إليه الأمّهات في زماننا هو تأمين مستلزمات الحياة المادية للأولاد من دون الالتفات إلى العامل المعنوي الذي يعدّ الأهمّ في تلبية الاحتياجات الإنسانية، ممّا يؤدّي إلى عدم اكتمال الشخصية بمعاييرها الإنسانية العالية، والذي يؤدّي إلى أمور لا تُحمد عقباها. حنوّ الأمّ وعطفها على ولدها من أقوى عوامل التربية الذي يعدّ الداعم الأساسي والمعين للأمّ في تربيتها حتى تخرّج جيلًا ذا شخصية يمكن الاعتماد عليه، فالمثابرة، والصبر، والمشاعر الإنسانية الفيّاضة، تعطي إكسيرًا لحياة الطفل، وتأخذ بيده لترفعه وتعينه على مواجهة تحدّيات الحياة وبلاءاتها، فالأمّ رفيقة درب الأطفال وحاضنة مشاعرهم وملجأ كربهم، حيث تتحوّل بعد ذلك إلى أول قدوة لهم، فيتشبّهون بها ويتمنّون أن يكونوا مثلها. ولا يتوقّف دور الأمّ عند ذلك، بل نجدها أول مَن يقوم بزرع الأخلاق الأساسية في حياتهم كالمحبّة، والرحمة، والمودّة، والأخلاق الحميدة، والعطف على الضعيف، والأخذ بيد المحتاج. فالأبناء يتأثرون بكلّ ما يحيط بهم، وتحتفظ عقولهم بكلّ ما تنظر إليه أعينهم وتسمعه آذانهم، ويبقى ما ورثوه عن الأمّ محفورًا في أعماق النفوس والضمائر لا يتوقّف أثره في هذه الحياة. فاعلمي أيّتها الأمّ أنّ مَثَل طفلكِ كمَثَل زرع يحتاج إلى رعاية خاصّة، وبيئة تناسب منشأه، خالية من الملوّثات، بعيدة عن الإهمال واللامبالات؛ حتى تنتج ثمرًا طيبًا، فأنتِ أول مَن سيتذوّق ثمار هذا الزرع، وهذا ممّا أشار إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته للإمام الحسن (عليه السلام): "وإنّما قلب الحدث كالأرض الخالية ما أُلقي فيها من شيء قبلته، فبادرتكَ بالأدب قبل أن يقسو قلبكَ ويشتغل لبّكَ لتستقبل بجدّ رأيكَ من الأمر ما قد كفاكَ أهل التجارب بغيته وتجربته"(1). ............................... (1) نهج البلاغة: ج ٣، ص ٤٠.