هُوَ الفَجرُ
قال الله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) (النور:36)، بيتٌ أُسّس على التقوى، بل هو بيت التقوى، وحصنها الحصين وقلعتها المنيعة، سقفه لا إله إلّا الله، وأركانه محمّدٌ رسول الله، وبابه عليٌّ وليّ الله، وأحجار بنائه سرٌّ من أسرار الله أودعه سيّدة بنات آدم وحوّاء، أسماها فاطمة الزهراء، فُطم الخلق عن معرفتها، وفُطموا عن النار بمحبّتها وولايتها، وولاية أبيها وبعلها وبنيها (صلوات الله عليهم أجمعين). عشّ الحقيقة هو، بين جنباته يتضوّع مسكها الفوّاح، وفي أرجائه تسبّح ملائكة الرحمن مؤمّنةً على تسابيح سكّانه، وما سكّانه إلّا بضعة النبيّ ووصيّه، وبكرهما المزقزق فرخًا زغب الجناح، يزقّانه العلم والتقى والفلاح زقًّا، ويتطلّعان إلى الكون من عينيه المشرقتين بدرًا في الليالي الملاح، يحيل الظلمة نورًا والمساء صباحًا... ولكن، رويدًا... إنّ في أحشائكِ يا سيّدة النساء ثمرةً منتظرةً تفيض عليكِ دفقًا من الثناء، بل إنّ تفّاحة الجنّة الممتزجة بعبيركِ الفوّاح، تمدّ عروقها الريّانة لتتداخل في شرايين نضرةٍ خفّاقةٍ بالعطاء، وتتجسّد الجنّة طفلًا لا يشبهه من بني البشر إلّا أخوه، ولا يماثله حسبًا ونسبًا وطهرًا وقربًا إلّا هذا الصغير الكبير المحتلّ ذراعيكِ الحانيتين، فإذا أنتِ بين جنّتين، إحداهما تحت قلبكِ تتغذّى من جناه، والأخرى قربه ترتوي من سناه... ستة أشهرٍ لا تزيد، ويكتمل الحمل الفريد بين جناحيكِ يا سيّدة الطهر المحمّدي، وتؤذّن جوارحكِ الفيّاضة بالحنين، ويتململ بين جنبيكِ ذاك الجنين، يستأذنكِ بالانتقال إلى عالم الدنيا، حيث المحبّة والأمومة تتمثّلان بشرًا، والهداية والولاية تتآخيان، فيقع الوليد ساجدًا يوحّد الرحمن، ويمجّد ويشهد أنّ البَرّ الودود قد أبدع في خلق الإنسان... أهو فيض ملكوتي؟! أم لحنٌ سماويٌّ جال في الآفاق زمنًا ثم حطّ ها هنا، في بيت فاطمة وعليّ، واتّخذ الأرض له موطنًا، والمدينة الزاهرة مسكنًا؟ بل هو كلّ ذلك، وهو الفجر تقطر أطرافه بالندى، رقراق المحيّا، وهي الرياحين تنثر عطرها على الأفئدة لتحيا، وتتبارى كلّ ذرّة في الوجود لتنسكب عند قدميكِ، لتقدّم فروض التهنئة بمولد سيّدٍ من سادة الدنيا والآخرة، بل هو قرّة عينٍ لكما، يا نورَي الله الأزهرينِ، يا خير من رُفعت بكما سماوات، وبُسطت أرضون، فلقد أثمر الطهر حَسنًا، ثم ها هو يبرعم الحسين. أيّ فرحةٍ لم يشهد لها الكون مثيلًا، فهي الشاهد الأعظم على أنّ السرور على هذه الأرض لا يلبث إلّا قليلًا، وهي أهزوجة ربيع فتي، وهينمة أملاكٍ وأفلاك، ومهرجان وردٍ وزهرٍ وطيبٍ، ولكنّ الورد علّته الأشواك، وفي طيّات الفرحة العارمة تترقرق دموع الروح الأمين، ويهبط على قلب خاتم المرسلين لينبئه بالقَدَر الدفين، وبما هو مكتوب لهذا المولود بعد حين! أيّ حزنٍ هذا الذي تقرئينه مولاتي على وجه أبيكِ الأحبّ، وأيّ خاطرةٍ تراود قلبكِ الخفّاق بالحبّ، وإنّكِ لتحزنين وتفرحين على إيقاع دمعته وبسمته، ثم ها أنتِ ترصدين بروحكِ الشفّافة ما يخفيه عنكِ من خبر، مثلما ترصدين بنبضكِ نبض ذاك القلب. وتنظرين من حولكِ، فالأسى في يوم الفرح أكثر ألمًا منه في أيّ يومٍ آخر، وتقرئين الآية نفسها على وجه بعلكِ المرتضى، وتسألين، وتنظرين في عمق عيني مولودكِ الذي راح يسدّد نحوكِ سهام حبّه الأولى، فيصيب السهم من قلبكِ مقتلًا وأنتِ تسمعين الجواب: -"تقتله الفئة الباغية من بعدي، لا أنالهم الله شفاعتي".(1) مولاتي... غصّة فؤادكِ تتصاعد لتعلق بحلقومكِ المرتّل آيات الذكر، ترطّبين بها جوفكِ وتملئين الكون بالشكر، فتستسيغين الفكرة وتزدردين العَبرة، ثم تطلقين الزفرة مع نظرةٍ نحو البعيد البعيد، تستشرفين بعين الرضا المستقبل المرصود؛ فلقد علمتِ بأنّ الله سيخلق له شيعةً يعشقون ترابه ويقدّسون أعتابه، ولا يقبلون إلّا أن يُحشَروا في رِكابه. .............................. (1) بحار الأنوار: ج43، ص 239.