رياض الزهراء العدد 180 أنوار قرآنية
دِلَالَةُ البِنْيَةِ الصَّرْفِيَّةِ فِي القُرآنِ الكَريمِ
نلاحظ في مجتمعاتنا أنّ بعض الأشخاص يقرؤون القرآن الكريم بشكل سطحي، والهدف هو عدد صفحات القراءة أو الأجزاء، وكأنّ الله (سبحانه وتعالى) يحثّنا على قراءة القرآن الكريم لمجرد الترتيل! بينما الهدف الحقيقي والمطلوب هو فهم مضمون الآيات، واتّباع تعاليم الخالق عن طريق دستور الحياة الأبلغ. وغالبًا ما نسمع عن بلاغة القرآن الكريم، فماذا تعني هذه العبارة؟ إنّ البلاغة تعني وضع الكلام موضعه مع حسن العبارة(1)، وأنّ لكلّ كلمة في القرآن الكريم معنىً دقيقًا ومحدّدًا، وفي مثل قوله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ... (البقرة: 286)، السؤال هنا: ما الفرق بين الفعلين (كَسَبَت) و(اكتَسَبَت)؟ لَهَا مَا كَسَبَتْ بمعنى أنّ كلّ شخص يحصد ما جنته يداه، حسنًا كان أم سيئًا، وسيواجه في هذا العالم أو في العالم الآخر نتائج هذه الأعمال وعواقبها، فالآية تنبّه الناس على مسؤولياتهم وعواقب أعمالهم، وتفنّد الأساطير التي تبرئ بعض الناس من عواقب أعمالهم، أو تجعلهم مسؤولين عن أعمال الآخرين دون دليل(2). وقد استخدم الله سبحانه وتعالى مع فعل الخير وزن الفعل المجرّد (فَعَلَ)؛ للدلالة على أنّ الطبيعة الإنسانية تقوم على الخير، بينما فعل الشرّ يحتاج إلى تكلّف وبذل جهد للقيام به؛ لأنّه منافٍ للطبيعة الإنسانية، لذلك استخدم الفعل على وزن (افتعلَ)، وكأنّ تلك الأفعال يكتسبها الإنسان من الطبيعة الشيطانية الدخيلة(3)، ولنلاحظ الفعلينِ (سمعَ) و(استمع) كمثال على ما سبق، ولنفترض أنّ شخصًا ما موجود في غرفة تضجّ بأصوات متعدّدة تأتي من: جهاز التلفاز، الأطفال وهم يلعبون، ومجموعة أشخاص يتحاورون، فالأمر الطبيعي أنّ كلّ تلك الأصوات المتداخلة سيسمعها الإنسان بصورة طبيعية عن طريق أذنيه، وهنا نقول (سَمِعَ) على وزن (فَعِلَ)، لكن إن أراد أن يتابع ما يُبثّ عبر جهاز التلفاز فأنّه سيبذل جهدًا لكي يستمع إليه في داخل هذه الجلبة، لذلك نقول (استمع) على وزن (افتَعلَ). إذًا نخلص إلى أنّ (سَمِعَ) التي على وزن (فعِل): بمعنى سماع الصوت بشكل طبيعي دون بذل الجهد، وهو كلّ ما كانت عينه مكسورة في الماضي، مفتوحة في المضارع(4). بينما (استمع) التي هي على وزن (افتعل): هو الاستماع مع بذل الجهد للإصغاء إلى مضمون الكلام(5). وعليه فقوله تعالى: لها ما كسبت فيه دلالة على تأصّل الخير في الطبيعة البشرية (6)، والقيام بفعل الخير أو العمل الصالح لا يحتاج إلى الاجتهاد وبذل الجهد، مثال: إذا أراد مزارع أن يأخذ حاجته من الخضار التي زرعها في حقله، فسيقوم بذلك بكلّ بساطة وبشكل طبيعي، فالرزق رزقه وهو حقّه، بينما لو أراد جاره أن يأخذ من تلك المحاصيل من دون إذنه فإنّه سيحتاج إلى وضع خطّة لكي يحصل عليها من دون أن يراه أحد، لأنّها ليست من حقّه؛ لذلك فالأول (كسبَ) التي على وزن (فَعَلَ)، والثاني (اكتَسَب) التي على وزن (افتَعَل). ............................... (1) يُنظر جواهر البلاغة: ص31. (2) تفسير الأمثل: ج ٢، ص ٣٦٧. (3) المصدر السابق. (4) شذا العرف في فنّ الصرف: ص 64. (5) يُنظر: شذا العرف في فنّ الصرف: ص30. (6) يُنظر: تفسير الأمثل: ج ٢، ص ٣٦٧.