صِلَةُ الجِيرانِ

فاطمة حسن الفقيه/ لبنان
عدد المشاهدات : 151

خلق الله تعالى هذا العالم المليء بالتزاحمات من كلّ جانب، وخلق الإنسان مع غيره من المخلوقات التي لا تُعدّ ولا تُحصى، وجعل حبّ الاجتماع والتآلف في فطرته، لذلك تراه لو ‏خُلّي ونفسه فأنّه يكره الوحدة والغربة ويستوحش منها، ويسعى إلى التعارف والألفة، مثلما جاء في قوله تعالى: ‏‏( وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ((الحجرات: ١٣(. فيبدأ بتكوين علاقاته الاجتماعية مع أول ارتباط له مع والديه وعائلته، لتسكن نفسه ويعيش الأمن والاستقرار، وبعدها يتوسّع إلى جيرانه ثم الأبعد فالأبعد، إلى أن تشمل جميع أفراد المجتمع، بل جميع أبناء العالم، وهذا ليس ببعيد في زمن صار العالم فيه بمنزلة القرية الصغيرة بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يخفى على الجميع أنّه ‏على الرغم ممّا فيها من إيجابيات إلّا أنّها لا تنفكّ عن المفاسد العظيمة التي نتج عنها التفكّك على صعيد الأسرة ‏الواحدة والأقارب والجيران وغيرهم، والذي يهمّنا هنا هو تسليط الضوء على صلة الجيران؛ لأنّها تعدّ ‏الخطوة الأولى الاجتماعية خارج البيت، وهي من أسس السعادة والطمأنينة لأيّ إنسان. لكنّنا اليوم مع بُعدنا عن التعاليم الإسلامية وانغماسنا في الدنيا والمادّيات، والأنانية وحبّ الذات، بِتنا نعيش حالة من التشتّت ‏والانفكاك بعضنا عن بعض، إذ من المؤسف أن نجد أواصر العلاقات الاجتماعية قد انحلّت وتلاشت، وانشغل كلّ ‏فرد بحاله ، وما عاد يهتمّ لغير مصالحه الشخصية، حتى على مستوى الأسرة الضيّق، فما بالنا بالعلاقات ‏الأوسع مع الجيران وغيرهم؟!‏ فتجدنا نعيش حياة الغربة مع جيراننا حتى في مجتمعاتنا الإسلامية، فيمرّ بالإنسان ما يمرّ من مشاكل وأمراض، ‏ولا يجد مَن يقف بجنبه ويسأل عن حاله، متناسين وصايا الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ‏بالجار، حتى ظنّ الناس أنّه سيورّثه، ونجد في بعض المجتمعات القائمة على أساس أنّ قيمة المرء بمقدار ‏ماله، تعيش العائلة بجوار عائلة أخرى سنين طويلة من دون أن يبادر أحدهم إلى التعرّف على جاره، فضلًا ‏عن بناء العلاقات البسيطة معه، وقد يصعب علينا أن نصدّق الكثير من القضايا التي تحدث، وتكون مخجلة جدًّا ‏بسبب هذه القطيعة مع الجيران، والله سبحانه وتعالى قد أوصانا بالجار، وجعله من ضمن الفئات المطلوب أن ‏نحسن إليها، مثلما جاء في قوله تعالى: )وَاعْبُدُوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ‏وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ( (النساء: 36)، وأقلّ الإحسان السلام على الجار والسؤال عنه ‏عند غيبته وتفقّد حاله.‏ فالاهتمام بالجار وبناء أواصر المحبّة والتعاون معه يعدّ الحجر الأساس في بناء مجتمع متماسك وقويّ، وهو ما حثّنا عليه أئمتنا (عليهم السلام)؛ لما له من أثر كبير في المجتمع ككلّ، بل في تماسك العائلة نفسها، وبعث الطمأنينة والسكينة فيها؛ لأنّ الإنسان بما فيه من حبّ فطري للاجتماع، تؤثر علاقاته الطيبة مع الآخرين -الجار بالدرجة الأولى بعد أهل بيته- في راحة باله بين أهله وسكون نفسه، ويساعده ذلك في ‏سيره التكاملي نحو الله تعالى، وبحسن تعامله مع جيرانه يكون القدوة لأبنائه في حياتهم والمثل الأعلى لهم في الأخلاق الحسنة، وفي المقابل يؤثر ترك ذلك سلبًا فيه وفي عائلته، لذلك صار حسن ‏المجاورة علامة للإيمان، مثلما جاء عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "اعمل بفرائض الله تكن أتقى الناس، وارضَ بقسم الله تكن أغنى الناس، وكُفَّ عن محارم الله تكن أورع الناس، وأحسن مجاورة مَن جاوركَ تكن مؤمنًا، وأحسن مصاحبة مَن صاحبكَ تكن مسلمًا"(1). ............................... (1) بحار الأنوار: ج74، ص114.