رياض الزهراء العدد 180 الحشد المقدس
المُختَارونَ
"ومَن قُاتل دون نفسه حتى يُقتل فهو شهيد"(1)، "مَن قُتِل دون ماله فهو شهيد"(2)، "مَن قُتِل دون مظلمته فهو شهيد"(3). جلّها أحاديث عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كنّا مطالبين بحفظها في سنوات الدراسة، إلّا أنّنا لا ننكر بأنّنا لم نكن نفقه كلمة (شهيد) جيدًا، لكن بصفتنا عراقيين أُجبرنا على فقه هذا المصطلح، فمن النادر أن تجد اليوم عائلة عراقية لم تقدّم شهيدًا. ما أزال أذكر يوم شهادته، كأنّه البارحة، دخل أبوه يومها ليخبرنا أنّ ابنه فاز بالجنّة، لم أرَ حزنًا في عينيه، إلّا أنّني رأيتُ فراغًا غريبًا ممزوجًا بنوع من الفخر لا أستطيع تفسيره ووصفه إلى اليوم، استقبلنا جنازته يومها بالزغاريد، تعانقها دموع الفراق كعادة الجميع عند استقبال الشهيد، أتذكّر أنّهم وضعوا تابوته في منتصف الغرفة، أحطناه جميعًا كأنّا أردنا منه أن يرانا، أن يرى كم أنّنا فخورون بشهيدنا الفتي، الذي لم يتجاوز عمره الثانية والعشرين! ها هي اللحظة التي لم ولن تزول من ذاكرتي ما حييتُ، لحظة دخول أمّه ورؤيتها أنّ ابنها لم يتبقَّ منه سوى قطعة الخشب هذه، التي تشبه الصندوق، توقّعتُ منها أن تصرخ أو أن تمزّق ثوبها على فراقه، إلّا أنّها لم تفعل! وقفت عند الباب تنظر للتابوت كأنّها تراه بلحمه واقفًا أمامها، لا أدري لِمَ شعرتُ بأنّها كانت تحادثه بنظراتها، وأنّ روحه قد فهمت ما تقصده عيناها، رأيتُ فيها امرأة شامخة قوية كنخيل عراقنا الذي نفخر به، كانت نخلة باسقة، أدركتُ يومها كمّ القوة التي يبعثها الله في قلوب أحباب الشهيد كرامةً له. اقتربتُ حينها من التابوت، شعرتُ براحة وسكون غريبين لم أعهدهما قبلًا، بات عندنا مساءً وأخذوه فجرًا. مبيته هذا أبقى في الغرفة التي مكث فيها بالذات رائحة لا يُمكن وصفها، رائحة من الجنّة ربّما، بقيت لأسابيع في منزلنا لا تزول، يشمّها كلّ مَن يزورنا. أشعر أنّ الجنّة تختار الشهداء بعناية، فأنا مؤمنة بأنّ الشهيد شخص قد اختارته الشهادة، لا هو مَن اختارها. ............................. (1) ميزان الحكمة: ج ٢، ص 1516. (2) تهذيب الأحكام: ج ٦، ص١٦٧. (3) الكافي: ج ٥، ص 52.