شَهَادَةٌ في شَهرِ اللهِ

عبير عباس المنظور/ البصرة
عدد المشاهدات : 279

على الرغم من لفحات رياح السموم وأشعّة الشمس الحارقة في شهر رمضان المبارك على السواتر في قاطع (مكيشيفة) جنوب تكريت، إلّا أنّ أبطال حشدنا المقدّس صمدوا أمام كفاحين، دفاع في سبيل الله وجهاد الصوم في الحرّ، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: "الصوم في الحرّ جهاد"(١)، وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال: "أفضل الجهاد الصوم في الحرّ"(٢). تكرّرت هجمات داعش الإرهابية على القاطع لأيام، وأبطال حشدنا جاهزون للصدّ والردع على الرغم من صومهم في ذلك الصيف اللاهب وأشعّة الشمس القوية، جهوزيتهم تلك في الدفاع عن حمانا وأرضنا لم تعطهم الوقت الكافي لإعداد وجبة الإفطار، فكانوا يقاتلون خِماصًا عطاشى. شهدتُ محادثةً بين بطلين، فلاح وعمّار اللذين كانا قد تعاهدا أنّ مَن يحفظ دعاء (كُميل بن زياد) أولًا فإنّ على زميله أن يعدّ له طعام الإفطار، وفي ليلة الجمعة فاز فلاح، فقد حفظ الدعاء كاملًا وقرأه علينا جميعًا، وتعهّد عمّار بإعداد الإفطار لفلاح في يوم الجمعة، ولكن انشغالنا بصدّ الهجمات منع عمّارًا من إعداد الإفطار، وذكر ذلك لفلاح في أثناء صدّ الهجوم الإرهابي قُبيل أذان المغرب من يوم الجمعة قائلًا: - لقد وعدتُكَ بوجبة إفطار، وأنا عند وعدي، ولكن يا للأسف الشديد مثلما ترى لم أستطع إعداد إفطار يليق بحفظكَ لدعاء (كُميل) غير هذه التمرات الخمس التي في جيبي، فهل تقبلها بدلًا عن وجبة الإفطار؟ فأنا أشعر بأنّه الإفطار الأخير لنا. ابتسم فلاح وهو يصوّب سلاحه جهة العدوّ قائلًا: - سأقبلها حتمًا، فأنا أشعر أيضًا بأنّه الإفطار الأخير ولا سحور بعده. وضحكا معًا، وقلنا: يبدو أنّ هذه معركتنا الأخيرة، والشهادة ستكون في شهر الصيام. مرّت سويعات قليلة، وإذا بالقدر يلملم شتاته في الليل البهيم قُبيل الفجر، وفيما نحن بين مصلٍّ وراكع وتالٍ للقرآن، قطع علينا انشغالنا بالعبادة رنين هاتف (باسم)، اتصلت به أمّه لتطمئنّ عليه وتذكّره بوعده لها بأن يحضر وقت الإفطار والسحور عندها عندما يأتي في الإجازة. مرّت لحظات، وإذا بانفجار قويّ عصف بنا فقُتِلَ مَن قُتِل، وجُرِحَ مَن جُرِح، وحمل سلاحه مَن استطاع ذلك، وتمّت المواجهة الشرسة مع الدواعش حتى تعالى صوت الأذان الذي أعلن فرار الأرجاس وهزيمتهم مخلّفين ثمانية شهداء وخمسة جرحى، وأوراق المصاحف المحروقة والمتناثرة مع ذرّات الرماد والدخان ليكون سحورًا دمويًا كُتِبَت فيه الشهادة لإخوتنا الأبرار في اللحظات الأولى من يوم رمضاني مبارك، الذي حمل لنا غصّة لا تنتهي، وكلّما حان وقت الإفطار تذكّرنا الإفطار الأخير. ................................................ (١) بحار الأنوار: ج٩٦، ص٢٥٦، ح٣٨. (٢) ميزان الحكمة: ج٢، ص١٦٨٨.