وأَبتسِمُ شُكرًا للرَّبِّ...

إيمان عبد الحسين الحبيشي/ البحرين
عدد المشاهدات : 188

تتميّز الشريعة الإسلامية بكونها شريعةً وسطًا، والوسط هنا لا يعني الاعتدال فحسب، بل واقعية الوقوف في منتصف المسافة بين الواقع والمثال، ومنتصف المسافة بين الروح والمادّة، ومنتصف المسافة بين العقل والقلب، ومنتصف المسافة بين القيم والحاجات، ومنتصف المسافة أيضًا بين الفرد والمجتمع. لا تتعالى الشريعة الإسلامية فوق حاجات الإنسان الفطرية، لكنّها تُنظِّم وتُقيِّد تلك الحاجات؛ حتى لا ينفلت الفرد ويغرق إمّا في مساحة تلبيته لكلّ حاجاته، أو في مساحة قمعه لتلك الحاجات، بما يترك أثره البالغ في المجتمع الذي يعيش فيه الفرد، ونجد ذلك واضحًا جدًّا في كلّ العبادات والمعاملات التي يوصي بها الإسلام، بما فيها تلك العبادات والحاجات الفردية من قبيل المواءمة مثلًا بين العبادة وقيام الليل، وبين خروج الإنسان لطلب رزقه، وفي ذلك يقول بعض العلماء الأفاضل: "ومن التعاليم الإسلامية المعتمدة على مبدأ تكريم الإنسان أصل قداسة حاجات الإنسان كلّها، فالإسلام يعترف بجميع هذه الحاجات ويعتبرها نِعم الله، ويضع أحكامًا لتوجيه هذه الرغبات، وأنّ السعي لتلبيتها بالصورة المشروعة عبادة، فالتجارة والزراعة والبناء عبادات، والكدّ في طلب الرزق الحلال جهاد، والإتقان عبادة..."(1). إنّ العلاقة بين الفرد والمجتمع من وجهة نظر الإسلام، هي علاقة تبادلية، إذ يُؤثِّر الفرد في مجتمعه ويؤثِّر المجتمع في أفراده، وهما بعدان مهمّان في الإسلام، لذلك فإنّ لكلّ تفصيل إسلامي عبادي وأخلاقي وقيمي يقوم به الفرد أثرًا في مجتمعه، فضلًا عن وجود عبادات اجتماعية بذاتها كالزكاة وصلاة الجماعة التي تترك أثرها في أفراده. واللباس الشرعي والحجاب مثلًا هو عبادة تخصّ المرأة، لكن أبعاده الاجتماعية في غاية الأثر، وتضع المرأة في موقعها المسؤول بوصفها إنسانًا يُعمِّر الأرض ويتحمّل مسؤولية خلافة الله فيها. وممّا يجب أن تعيَه الجهات المعنية هو أن تحملَ على عاتقها مهمّة استثمار كلّ أبعاد التوجيهات الإسلامية، وكلّ المناسبات الدينية، وذلك من أجل تعزيز القيم والمفاهيم التي يسعى الإسلام إلى تثبيتها في نفس الإنسان، ولا تقف عند هذا الحدّ، بل تتجاوزه لتحويل تلك القيم والمفاهيم إلى عمل يحقّق أهدافًا إنسانية واجتماعية لا غنى للمجتمع عنها، وهو أمر يتحقّق بكثافة في شهر رمضان المبارك. فمن خصوصيات الشهر الفضيل قراءة القرآن الكريم وكثرة الاستغفار، وتكثر فيه المجالس القرآنية، فيلتقي عند صفحات قرآنه الكثير من المتخاصمين، يتصافحون ويحتضن بعضهم بعضًا، ويقفون عند آيات الذكر الحكيم يستذكرون عِبَر هذا الكتاب العظيم، ويشنِّفون أسماعهم بجميل آياته، ويتجاوزون بقيمه عن أخطاء بعضهم ابتغاءً لوجه مُنزِله تعالى، ويطهّرون به دَرَن قلوبهم، وحيث يُمسك الصائم طوعًا عن ملذّات الطعام والشراب والشهوات، ويُكبِر في نفسه أن يعمل بمكروهٍ فضلًا عن أن يعصي الله في أيامه ولياليه، فيشعر بجوع الفقراء وحاجة المحتاجين، لذلك تُمَدّ الأيادي البيضاء بسخاء في هذا الشهر المبارك، فضلًا عن الزكاة الواجبة وما تحويه من أبعاد اجتماعية تكون حاضرة في نفس المؤمن وروحه في هذا الشهر الفضيل. ليكن هذا الشهر وهذه المناسبات منبرنا ووسيلتنا لتربية جيل عقائدي عالِم عامل، ندعم خلاله النقاشات العلمية العقائدية، فلن تتحوّل كلّ الشهور لتكون مثل شهر رمضان، لكن ليكن هذا الشهر المميّز محطّةً لزرع القيم التي نحصد ثمارها طوال كلّ الشهور.