يُتمُ البِضعَةِ

رجاء محمد بيطار/ لبنان
عدد المشاهدات : 217

فوق ذاك الرأس القدسي وقفتُ ذات يتمٍ أتمسّح وأتبرّك، ومن ضياء وجهه الصبوح اهتديتُ إلى معالم المسلك. حينما حضنته يداي الفارغتان آنذاك، وآواه بيتي الخالي إلّا منّي ومن عمّه الذي كفله بعد جدّه سيّد قريشٍ وكبيرها، كنتُ قد حسبتُه الولد الذي لمْ ولنْ ألده، ولكنّ البركة التي حلّت، والدعاء الذي رفع يديه الصغيرتين وقلبه الكبير به، قد استُجيب، وها هو بيتي قد استقبل الخير واليمن والأولاد من الذكور والإناث، ولكن أيًّا من فلذّات كبدي هؤلاء لم يكن ليبلغ عندي منزلة محمّد. ولكن لماذا أسترجع كلّ هذا الآن؟! أيّ ذكرى حملت إليّ صورة الطفل اليتيم المبارك الذي غيّر حياتي وحياة مكّة والعرب والبشر أجمعين؟! أجل، إنّها (النسلة) الميمونة المباركة التي رُزق بها بعد البعثة بخمس سنين، وقد شاء الله أن يعوّض على الصادق الأمين وزوجته الطاهرة خديجة بخير عوض، بعدما فقدا القاسم والطاهر صغيرين، فكانت فاطمة. لقد شهدتُها مولودةً تتضوّع بعبير الجنّة، ويتدفّق من محيّاها رحيق الكوثر، وتزهر طلّتها البهيّة بأنوارٍ ما رأيتُها إلّا في وجه أبيها النبيّ، وربّما في وجه ولدي عليّ، وليد الكعبة الذي كفله محمّد. إنّ صور طفولة ذاك اليتيم العظيم تراودني الساعة وأنا أنظر في وجه يتيمته. أجل، فلقد فقدت فاطمة أمّها قبل ساعة، وفقدتُ أنا بَعْلي قبل أيام، وخيّم الثكل على جبل (فاران) واربدّت سماء مكّة، وطوّقتها سحب الأحزان. إنّ حصار الشِعب الذي نكبتنا به قريش قبل ثلاث سنوات، قد هدّ كبارنا وأرهق صغارنا وأسقم أبداننا، إذ أراد كفّار قريشٍ أن يحاربونا، نساءً ورجالًا، شيوخًا وأطفاًلا، وحرموا كلّ مَن ينصر دين الحقّ من المشرب والمأكل، حتى أنفقت خديجة ـ روحي فداها ـ جلّ مالها على استقدام القوت من كلّ مكان، وبأبهظ الأثمان، وها هو الحصار قد انتهى، فقد أكلت (الأرضة) صحيفة الخيانة التي اتّفق عبرها قادة قريشٍ وزعماؤها على مقاطعتنا، وها هو الله يمحق كلمتهم بأضعف خلقه، ولكن لقد تداعت بُنية أبي طالبٍ وهو الشيخ الثمانيني الذي لم تضعفه أصعب الأنواء، وأسقم شظف العيش خديجة الطاهرة، فانتقل أبو طالبٍ إلى جنّة المأوى، وانتقلت خديجة إلى حيث بشّرها زوجها الأحبّ نبيّ الرحمة، إلى "بيت في الجنّة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب"(1)، وتركت خلفها هذه الدرّة النضيدة. ها هي صغيرتكِ الكبيرة يا أمّ الزهراء، ترفل في ثوب اليتم بعزّة الأولياء، وتقف فوق رأس أبيها اليتيم الأكبر تمسح بكفّها الصغيرة دمعه، كأنّما هي الأمّ لا الابنة، وها هي يدي تمتدّ إلى رأسها لتمسحه بلوعة، فإذا هي تتمسّح وتتبرّك، وإذا الدمعة فوق خدّها قد استحالت شمعة، وإذا قلبها النابض بما استودعها الباري من رفعة، ينطق بيتمٍ لا مثيل له، فهو ليس من يتم أبيها إلّا بضعة. ......................................... (1) بحار الأنوار: ج ١٦، ص ٨.