(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ)
لم ولن نجد في تاريخ البشرية رجلًا أعظم وأوفى منه في نصرة الإسلام والنبيّ (صلّى الله عليه وآله)، هو ميزان الحقّ والباطل، أمير الحبّ والملجأ عند الرخاء والشدّة، ومنذ البداية حتى النهاية نهتف باسمه: (نادِ عليًّا مُظهر العجائب....)(2). عند أعتاب عليّ (عليه السلام) يعجز القلم عن البوح، ويقف الزمان عند نظرته الرحيمة ولمسته الحانية على رأس اليتامى حتى يتعلّم أسس الحبّ، هو أول مَن آمن، فعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال بشأن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): "عليّ أول مَن آمن بي، وأول مَن يصافحني يوم القيامة، وهو الصدّيق الأكبر، وهو الفاروق يفرق بين الحقّ والباطل" (3). أشجع رجل، لا يهاب الموت ويقف في وجه الأعداء، فدى نفسه وبات في فراش النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كي ينجو الحبيب (صلّى الله عليه وآله)، كانت كلّ سكناته وحركاته لله تعالى، أول رئيس دولة في تاريخ البشرية يكشف عن ذمّته المالية قائلًا: "... إذا أنا خرجتُ من عندكم بغير راحلتي ورحلي وغلامي فلان، فأنا خائن....(4). أعدل رجل دولة حكم بحكم الإسلام بين المسلمين، لم يصعد فئة دون أخرى، ولم يحترم المظاهر التي لا تقدّم ولا تؤخّر، ولم يهتمّ بألقاب البشر وانتمائهم، بل الجميع كانوا لديه سواسية، أزهد أمير ترك الدنيا وزينتها، فعنه (عليه السلام) أنّه قال: "...إنّ دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها، ما لعليّ ولنعيم يفنى..."(5). هو القائل: "...سألقى وشيعتي ربّنا بعيون ساهرة وبطون خِماص، ليمحّص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين..."(6). كانت حياته كلّها طاعة وتسليم مطلق لله سبحانه وتعالى وللنبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وصفحات حياته كلّها علم وشجاعة، والنيل من المنافقين وأعداء الإسلام، وُلِد في بيت الله واستُشهد في بيت الله؛ ليكون آية للناس على أنّه آية الله العظمى، ولكن أيّ حقد كان في قلوبهم ليعميهم إلى هذا الحدّ فيتجرّؤوا على قتله، ولأنّهم كانوا يعرفون انفصاله عن الدنيا عند صلاته، وأنّه الفارس الذي لا يُهزم، اختاروا وقت الصلاة كي يتأكّدوا من نجاح خطّتهم، وبعد أن هجم الشقيّ ابن ملجم على أمير المؤمنين (عليه السلام)، بعض أصحاب الإمام (عليه السلام) قبضوا عليه وساقوه إليه، فقال له الإمام الحسن (عليه السلام): "هذا عدوّ الله وعدوّكَ ابن ملجم قد أمكن الله منه وقد حضر بين يديكَ"، ففتح أمير المؤمنين (عليه السلام) عينيه ونظر إليه وهو مكتوف وسيفه معلّق في عنقه، فقال له بضعف وانكسار، وبرأفة ورحمة: يا هذا لقد جئتَ عظيمًا وخطبًا جسيمًا، أبئس الإمام كنتُ لكَ حتى جازيتني بهذا الجزاء؟ ثم التفت (عليه السلام) إلى ولده الحسن (عليه السلام) وقال له: ارفق يا ولدي بأسيركَ وارحمه وأحسن إليه وأشفق عليه، ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أمّ رأسه، وقلبه يرجف خوفًا ورعبًا وفزعًا، فقال له الحسن (عليه السلام): يا أباه، قد قتلكَ هذا اللعين الفاجر، وأفجعنا فيكَ وأنتَ تأمرنا بالرفق به؟! فقال له: نعم يا بُني، نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب إلينا إلّا كرمًا وعفوًا..."(7). إنّه أعظم جريح يرأف بقاتله، فلتشهد البشرية، فلم ولن يولد أعظم وأوفى منه في نصرة الإسلام والنبيّ (صلّى الله عليه وآله). ......................................... (1) سورة القمر: 1. (2) بحار الأنوار: ج ٢٠، ص٧٣. (3) فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام)، ابن عقدة الكوفي: ص ١٩. (4) شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد: ج ٢، ص ٢٠٠. (5) ميزان الحكمة: ج ٢، ص ٨٩٩. (6) المصدر السابق نفسه. (7) بحار الأنوار: ج ٤٢، ص ٢٨٧.