لا حِرمانَ ولا شَبَعَ

لجين هادي العبوديّ/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 173

إنّ الاقتراب من الفهم العميق لحكمة الدنيا والآخرة يشتمل على الربط المباشر بينهما، أن تُرى الدنيا بمنظار الآخرة حتى في أكثر الأمور دنيويةً، أن يأكل المرء فيستشعر عمق حكمة قوله (سبحانه وتعالى): (وَاللهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (النور: 38). أذكر موقفًا حدث معي قبل مدّة، لكنّه رسخ في عقلي وتأمّلته مطوّلًا، كنتُ أشتري عصيرًا من متجر للعصائر والمثلّجات، وأنا أطلب العصير عادةً بدون سكّر، فقلتُ ذلك للفتى الذي يعدّ الطلبات كي يتذكّر، فلم يسمعني بسبب أصوات آلات إعداد العصائر العالية، فلمّا هدأت الآلات وبدأ يسكب العصائر، قلتُ له إنّني أريده بدون سكّر، وكان قد وضع السكّر في آلة إعداد العصير بالفعل! فأكمل سكبه وجهّزه ثم أعطاه لامرأة كانت قد طلبت (3) أقداح من العصير فقط، فقال لها: هذا الرابع ضيافة من المتجر! وراح يعدّ لي واحدًا جديدًا بدون سكّر، تأمّلتُ الموقف بعمق حينذاك، وقلتُ في نفسي: سبحان الله، يرزق مَن يشاء بدون حساب. الربط بين الدنيا والعالم الآخر، يتطلّب ارتداء نظارات خاصّة لا تُشترى إلّا بالابتلاء والنضج البطيء، حيث إنّ إمكانية عيش لذائذ الأرض من دون الانغماس في الدنيا يحتاج مقدرة عظيمة، أن يتمتّع المرء بعطايا الله (عزّ وجلّ) من دون الانهماك فيها وكأنّها شيء حتمي وثابت الوجود، بل لكونه محرّكًا رئيسًا للسعي نحو مصدر العطاء الأكبر، نحو مورد اللذائذ والأرزاق. أن يتأمّل الرجل في أهل بيته، ينظر إلى زوجته فيتذكّر قوله (عزّ وجلّ): )وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) (الروم: 21)، أن يعاملها بعطف ورأفة مجسّدًا قوله (عزّ وجلّ): (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَة) (الروم:21)، فلذّة الأنس بالدنيا وزينتها لا تكتمل إلّا حين تمتزج بنكهة الآخرة، وما أقلّهم أولئك الذين يمتزج العالمانِ في جوفهم، يعيشون روحية السماوات بأرض واسعة، ولا تزيدهم رغبات الدنيا إلّا تقرّبًا من رياض المعشوق الأبدي. ينبغي على المخلوق أن لا يقع في فخّ الفصل بين العالمينِ، فإنّه حين يعيش كأنّه قابع في الدنيا من دون انتقال للعالم الثاني، فإنّه يتحوّل إلى أداة طيّعة تحرّكه خيوط الحياة الفانية، تحيله إلى دابّة لا تعرف إلّا الاستهلاك والاعتياد على المتوافر لها، ولا تنتظر إلّا أن ينقضي اليوم ليبدأ الغد وتنال منه ما قُسِم لها، إنّها عملية تناول مستمرّ بدون أن تهدف إلى شيء وبدون أن ينتج عنها ثمر. إنّ مَن يحيا متصوّفًا زاهدًا في الدنيا تمام الزهد، لا يحيا فيها إلّا منهكًا متعبًا لا يكاد يذوق فيها طعامًا ولا شرابًا خوفًا من أن تبدّل الجحيم مسرّاته إلى حروق لا شفاء لها، وتعاقبه على ابتسامة ترتسم على محيّاه، ينزوي بنفسه عن الناس، لا يألفهم ولا يألفونه، كأنّ مفاتيح الفردوس الأعلى تكمن في شقاء نفسه وحرمانها. إنّ السعيد الآمن يسعى إلى نيل فلاح الدنيا والآخرة، وهو مَن يوازن بين الكفّتينِ، فلا يُحرم في الأولى ولا يُعاقب في الآخرة.