لا أَحدَ يَشفَى تَمامًا
الذاكرة تجذبني بعنوة إلى حدث قديم، كنتُ حينها في سنّ العاشرة تقريبًا حينما مرضت والدتي ـ رحمها الله ـ وأُدخلت المشفى على أثر وفاة أخي الصغير، حدث ذات مرّة أن قرّرتُ النزول لأحد طوابق المستشفى لشراء شيء ما من مطعم المستشفى في إحدى زياراتنا لها، ضغطتُ زرّ المصعد الذي مرّ على طوابق عديدة؛ لكنّني لم أنتبه إلى أنّني ضغطتُ على الزرّ الخطأ! فُتح باب المصعد، استهجنت الممرّ في البداية، فهو لا يشبه القسم الذي أنشده، لكنّني أكملتُ الطريق ببراءة طفلة لا تعير أهمّية لمثل هذه الأمور، فالأقسام تتشابه بالديكور، إلّا أنّني شعرتُ بضياعي لحظتها! رأيتُ بابًا مفتوحًا دخلت منه إحدى الممرضات فتبعتُها من غير أن تشعر، أُغلق الباب بأرقام إلكترونية لجهاز معلّق على يمين الباب، أخذني الفضول، مشيتُ خطوات، رأيتُ أسرّة قليلة جدًا، المريضات لا يتحدّثنَ، هنّ فقط ينظرنَ لبعضهنّ البعض بشرود، فاجأتني صرخة قوية كاد قلبي أن يتوقّف من الفزع، إحداهنّ تضرب الحائط برأسها! هُرِعت الممرضات نحوها على عجل، تجمّعت الباقيات ببطء كمَن يمشي على غيم! نقر كتفي إصبع على مهلٍ، استدرتُ، كانت امرأة ثلاثينية، مدّت يدها لتسلّم عليّ، كانت كالمغيّبة أيضًا وكأنّ عينيها تسبحان في فضاء بعيد، كلا! من الصعب نسيان عينيها! مددتُ يدي على وجل، لمحتني إحدى الممرضات ونادت: ماذا تفعلين هنا يا صغيرة؟ هذا قسم الأمراض النفسية، كيف دخلتِ؟ والآن بعد كلّ هذه السنوات الطوال أتساءل: تُرى ما الذي حدث لتلك المرأة حتى وصلت إلى ذلك المكان؟ أيّ ألم عميق ينقضّ على المرء حتى تخور قواه فينسحب من رحاب الحياة هكذا؟! وهل يمكن للجنون أن يكون هو عين العقل إذا لم يكن للعقل كلمة مسموعة؟! ربّما هو الظلم، ربّما الخوف يقرع أجراس أبواب البعض ويلوذ هاربًا تاركهم مذهولين، يرجّهم رجًّا قويًا، يزعزع أركانهم فلا يستطيعون لملمة أنفسهم مرّة أخرى!