رياض الزهراء العدد 182 أروقة جامعية
تَبايُنٌ وُجُودِيٌّ
قبل بضعة أشهر كتبت صديقة لي في حسابها على إحدى منصّات التواصل الاجتماعي نصًّا تُعبّر فيه عن حبّها للصيف وولعها به، وكم أنّه يشعرها بالشباب والحيوية! وممّا زاد من حيرة القارئ أنّ الجوّ حينذاك كان في أوج اتّقاده، وكنّا نعيش أجواءً لاهبةً تُذهب الصبر، وتجعل الجنون واقعًا لا محالة، وكان الذين يعلّقون على نصّها في صدمة، فكيف يمكن لشخص أن يرى جانبًا حسنًا في أمر يبغضه الجميع ويعاني منه أشدّ المعاناة! لكنّني دخلتُ إلى أعماق رأيها وكلامها، وتأمّلتُ حديثها، وخضنا نقاشًا بعد ذلك هو الذي جعلني أكتب هذا المقال. السؤال الجوهري الذي خطر ببالي هو: كيف تُعرَف قيمة الأشياء بأضدادها؟ وهل ستكون لبرودة الشتاء قيمة لولا أنّها تأتي بعد أشهر من التجمّر بنيران الصيف؟ هل سيُشتهى المطر إلّا بعد مُدد من الجدب؟ وهل سنلاحظ فرقًا في الطبيعة التي تنتعش في الربيع لولا أنّ براعم النباتات تنمو على أغصان جافّة؟! إنّ الغوص في هذه الفكرة يجعلنا نعلم أنّ كلّ شيء عندنا تبرز قيمته من نقيضه، فقيمة الطعام وشهيّتنا له يحدّدها الجوع، ودفء ملابسنا يتحدّد بمدى برودة الجوّ من حولنا، وشوقنا إلى الأشخاص المقرّبين منّا يزيده عامل البُعد عنهم، وقلّة لقائنا بهم، ولا يُقاس مستوى التطوّر أو التقدّم في مسارٍ ما إلّا حينما يُقارن بمراحل ركود سابقة، وهذا الأمر ينطبق على كلّ شيء في الوجود: الليل والنهار، الجَدب والمطر، الفقر والغِنى، الجوع والشبع، الصحّة والمرض، و.... إنّ إدراك المرء لهذه الخاصيّة الوجودية يجعله يقيّم الأشياء بطريقة تختلف كلّ الاختلاف عن رؤيته السابقة لكلّ شيء بالتساوي، وإنّ تفعيل هذه الرؤية يكسب الأيام قيمة مضاعفة، وينسّق مسار العيش اليومي لكلّ شخص. تجلّي خاصيّة التباين هذه تجلّيًا روحيًا وقلبيًا يمكّن الإنسان من إبصار تفاوت هائل بين مكوّنات الوجود، كالفرق بين درجة حرارة أقرب الكواكب إلى الشمس وأبعدها عنها، والفرق بين مشرق الشمس ومغربها، وبين الحلاوة والمرارة، وبين هدير الحمامة وعواء الذئب، وبين الدفء والزمهرير، والاختلاف بين الحياة والموت، والظلمات والنور، و... إنّ مهارة التمتّع بالنِعم الإلهية هي ما نحتاجه لمعرفة كيف تُعاش أيام الدنيا، ولولا خلق الله (عزّ وجلّ) للنقائض في كلّ شيء، ولولا الظلم والظلمات لما عرفنا جلاله، ولما أدركنا أنّه نور على نور، ولولا وجود الباطل لما أقررنا بالحقّ المطلق الذي لا يخيب مَن أدرك عظمته وآمن به.