الـمَبعُوثُ الإِلَهِي
ما تزال آثار أقدام الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) ترتسم على صخور جبل الرحمة، وما تزال إشراقات وجهه المنير تضيء في أرجاء مكة المكرمة التي احتضنت وليدها الذي نزل من غار حِرّاء يحمل في صدره الرحب معجزة النبوة ورسالةً طالما تلهّف لحملها ونشرها في ذلك الواقع الجاهلي الذي يعيشه. لقد كان ذلك الجبل بغاره هو المنفذ والمتنفس الوحيد له بعيداً عن ملوّثّات الشك والظلم والفساد، وقد يتساءل المرء عن سرّ بقائه لأربعين سنة بين قومه لم يفصح عن نبوّته، ولم يأمره الله تعالى بإظهار رسالته وقد يكون قومه بحاجة إلى هذه الرسالة بما تحويه من أفكار سامية تُصلح ذلك الواقع الـمُر. لقد كانت تلك السنوات هي محطة لما قبل النبوة؛ لأنها فرصة لتجلّي هذه الشخصية الرسالية. فأي شخصية رسالية تحمل أهدافاً لإحياء أمّة من الأمم، لابدّ من أن تكون قد طبّقت أهداف هذه الرسالة أولاً، وبما أن الرسالة لا تفرّق عن القيادة أبداً، كانت السماء تُعدّ هذا المصلح والنبي الخاتم لقيادة العالم الذي يعيش الظلم والاستبداد والفساد لا في واقع الجزيرة العربية فحسب، وإنما في كلّ الأمم في ذلك الوقت. كانت أبعاد شخصيته المباركة هي البوابة الرئيسية للدخول إلى ذلك المجتمع الذي يعيش حياة قاسية، وجهالة مطبقة، ونظاماً قبلياً يقوم على العصبية أكثر مما يقوم على شيء آخر. فالنفوذ والمال والجاه كان من نصيب قريش وزعمائها ولم يكن من المتيسّر لأيّ شخص أن يخترق هذا النظام الذي يعيش أفراده في ظُلَمِ الجهالةِ فأشرق النبي محمد (صلى الله عليه وآله) بنورانية هذه الشخصية المحبوبة بذلك الوسط وكأنَّه أتى من كوكب آخر، وهؤلاء لا يعيشون عليه، حتى عُرِف فيما بينهم بالصادق الأمين، وكأنها عبارة جمعت كلّ ما كان لهذه الشخصية من جمال وإبداع وسحر. إنَّ حادثةَ حمل الحجر الأسود بعد نزاع القبائل حول مَن يتشرف بحمل هذا الحجر ووضعه في مكانه، وإذا بعباءته الشريفة تحتضن هذا الحجر المقدّس وتحمله يد النبوة لتضعه في مكانه فكانت تلك الحادثة إشارة من السماء إلى عظمة دور هذا الإنسان في قيادة هذه الأمة، فمحبوبيتة (صلى الله عليه وآله) التي نشأت في أوساط مكة وبين سكانها، وكانت تنمو وتثمر، وينتشر عطر الرحمة وعبير الأمانة والشجاعة تحت أنظار قريش وأسماعها. فالمبشّر والقائد قد طبق أهداف رسالته السماوية من الوصول إلى أعلى مراتب الإنسانية قبل أن يحمّله الله تعالى مسؤولية تبليغها للعالم، ولهذا لم تستطع قريش أن تُقنع الناس وتثنيهم عن التصديق برسول الله (صلى الله عليه وآله) بدعوى أنه كذاب وساحر ومجنون.. إلى آخر ما وصفوه به وحاشاه من ذلك كلّه حتى وصل الأمر من اليأس بهم إلى أن قرّروا اغتياله، وهذا ما هو إلا تعبيرٌ عن فشلهم في الحد من انتشار رسالته. لقد استطاع نبيّ الرحمة (صلى الله عليه وآله) أن ينتشل المجتمع الذي يقبع تحت ظلام الجاهلية ليصنع منه أمّة ترقى إلى عظمة باقي الأمم. وينشئ مجتمعاً جديداً ودولة عظيمة في منطقة لم تخضع لأي من الإمبراطوريات التي تعيش حولها، وإنما كانت تعيش على شكل قبائل لم تعرف المدنية ولا أسس قيام الدولة من قبل. لقد أسس النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لدولة العدل الإلهي، وأنّ ملامح هذه الدولة الإلهية سوف تظهر عاجلاً أو آجلاً على يدي المصلح من ولده الإمام الحجة بن الحسن (عجل الله تعالى فرجه الشريف).