رياض الزهراء العدد 82 أنوار قرآنية
شَذَراتُ الآيات_19
( وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ)/ (النور:33) ذكرنا في الحلقات السابقة من سورة شرح سورة النور الآية (33) سبب نزول هذه الآية، إذ نجد فيها أنه ذكر كلمة (فتياتكم) بدلاً من الإماء قال الزمخشري: يُكنى بالفتى والفتاة عن العبد والأمة ولكنه عبّر بلفظ ليرتفع بهم إلى معالي الأخلاق. وكلمة (البغاء): الزنا: أي لا تجبروا إماءكم على الزنا، إنّ مسألة الإكراه تصدق في حالة عدم الرغبة فيه لذا قال القرآن الكريم: (إن أردن تحصنا) أي إن أردن العفة عن ارتكاب الفاحشة: وهذا لبيان فضاعة الأمر وشناعته وما كانوا يفعلون من القبائح. إذن فالأصل في المملوكة أن يحصنها سيّدها ولا يُكرهها على عمل الفاحشة؛ لأن هذا منتهى الخسّة والدناءة وعدم المروءة، وليس معنى هذا الحكم أنّ الفتيات وهنّ الإماء إن كنّ لا يردنَ التحصن فمن المباح أن يكرههنّ على البغاء، وإنما معناه أن الفتاة الأمة إن كانت ترتكب البغاء برضاها ورغبتها فتكون التبعة عليها والقانون يقوم بمحاكمتها هي نفسها، إما إذا كان سيّدها هو الذي يُكرهها فالتبعة عليه وهو الذي يؤاخذه القانون؛ لأن الإكراه لا يكون إلا إذا أُجبر أحد على فعل ما لا يحبّ، والفعل الأقبح من هذا أوضحه القرآن الكريم حين قال كلمة (لتبتغوا) أي تطلبوا طلباً حثيثاً في رغبة قوية بإكراههنّ على فعل الفاحشة، ثم جاءت عبارة (عرض الحياة الدنيا) التي تعني ما لا يكون له ثبوت، ومنه استعار المتكلمون (العرض) لما لا ثبات له قائمٌ بالجوهر كاللون والطعم، وقيل: الدنيا عرضٌ حاضر تنبيهاً على أن لا ثبات لها، والمعنى لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههنّ على البغاء لطلب المتاع السريع وأن تحصلوا على المال بطريق الفاحشة والرذيلة. ويعلّق السيد قطب على هذا النهي عن إكراه الفتيات على البغاء وهن يردن العفة ابتغاء المال الرخيص أنه كان جزءا من خطة القرآن الكريم في تطهير البيئة الإسلامية وإغلاق السبل القذرة التي تؤدي إلى الفساد، وذلك لأن البغاء يُغري الكثيرين لسهولته ولو لم يجدوه لانصرفوا إلى طلب هذه المتعة من الطريق الكريم النظيف.(1) بعدها وبحسب الأسلوب الذي يتبعه القرآن الكريم بفتح باب التوبة للمذنبين وتشجيعهم على إصلاح أنفسهم فيقول: (وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يمكن أن تكون هذه الآية إشارة إلى الوضع السائد بين ملّاك الجواري الذين غلب عليهم الندم واستعدوا للتوبة وإصلاح أنفسهم. أو تكون إشارة إلى النسوة اللواتي يرتكبن هذا العمل القبيح بإكراه من قبل أسيادهنّ(2). إنّ على الجماعات أن تصلح نظمها الاقتصادية بحيث يكون كلّ فرد فيها في مستوى يسمح له بالحياة المعقولة والزواج، فإن وجدت بعد ذلك حالات شاذة عولجت علاجاً خاصاً وبذلك ابتعدت عن البغاء. إذن فالنظم الاقتصادية هي التي يجب أن تُعالج لأن بفسادها تكون هناك ضرورة أو حجة على وجود المقاذر العامة في صورة آدمية ذليلة. وهذا ما يضعه الإسلام بنظامه المتكامل النظيف العفيف الذي يصل الأرض بالسماء ويرتفع بالبشرية إلى مستوى راقٍ من العز والكرامة ويمهّد لمستقبل مشرق مستمد نوره من الله (عز وجل)، ثم بعد ذلك عدّد الله (عز وجل) نعمه على المؤمنين فيما أنزل عليهم من الآيات المنيرات، وضرب فيها لهم من أمثال الماضيين من الأمم؛ ليقع التحفظ وحتى لا يقعوا في الخطأ نفسه الذي وقعت فيه تلك الأمم فقال: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) لقد صُدّرت هذه الآية بالقسم الذي يُعرب عنه اللام في (لقد) لإبراز كمال العناية بشأنه أي: والله، لقد أنزلنا إليكم في هذه السورة آيات مبينات لكلّ ما لكم حاجة إلى بيانه من الحدود وسائر الأحكام والآداب وغير ذلك قال المودودي: إن هذه الآية لا تتعلق بحكم آية (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ) فحسب بل تتعلق أيضاً بسائر الأحكام التي مرّ ذكرها من بَدء السورة حتى الآن.(3). ........................... (1) الحياة السعيدة: ص186- 188. (2) الأمثل: ج11، ص64. (3) الحياة السعيدة:ص198-190.