رياض الزهراء العدد 184 ملف عاشوراء
عَاشُورَاءُ الكَرَامَةِ
الكرامة هبة وهبها الله لعباده دون سائر المخلوقات، وهي قيمة ذاتية للإنسان، فقد قال تعالى في محكم كتابه: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (الإسراء: ٧٠)، ولا تتأثّر الكرامة باعتبارات المال، والجاه، والعرق، وغيرها، وقد ذكر العلّامة الطباطبائي في (تفسير الميزان) أنّ المقصود بالتكريم هو تخصيص الشيء بالعناية، وتشريفه بما يختصّ به ولا يوجد في غيره، وبذلك يفترق التكريم عن التفضيل، فإنّ التكريم معنىً نفسيّ، وهو جعله شريفًا ذا كرامة في نفسه(١). لذلك ينبغي الحفاظ على هذه الهبة القدسية بكلّ ما يصونها من الهتك أو التقصير بأداء حقّها، فالكرامة مؤسّسة على الحقوق، والحقوق لا تُمسّ في التشريعات الإسلامية بأيّ قول أو فعل، ولو قرأنا واقعة عاشوراء قراءةً موضوعية لاتّضح لدينا بشكل جلّي أهمّية الكرامة عند الإمام الحسين (عليه السلام)، ورفضه الذلّ؛ لأنّه الأنموذج الأمثل للإنسانية، وخليفة الله في أرضه، ويأبى الله لعباده أن تحكمهم أئمة الضلال والكفر، وتحطّ من قدرهم، لذلك خرج الإمام (عليه السلام) لمصارعة الباطل بقوله: "ألا وإنّ الدعيّ ابنّ الدعي قد ركّز بين اثنتين: بين السلّة والذلّة، وهيهاتَ منّا الذلّة، يأبى الله ذلك لنا، ورسوله، والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حميّة، ونفوس أبيّة من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام"(٢)؛ لأنّ الطغاة كي يبسطوا سيطرتهم لا بدّ من أن يسلبوا الناس كرامتهم وعقولهم، وأن يقضوا على خصمائهم من جبهة الحقّ حتى تخلو لهم الساحة، لذلك واجه الإمام (عليه السلام) حربهم الشنعاء حتى آخر رمق من روحه وأرواح أهله وأصحابه الأبرار، ولم يذق من كأس الذلّ قطرة، وضحّى أعظم تضحية في الوجود، مقدّمًا للأمة صورة الإسلام الحقيقية التي أراد الحكم الأمويّ قلبها، وتغيير معالم الدين وفقًا لمصالحه المادّية. إنّ الكرامة هي جوهر وجود الإنسان المرتبط بالعقل، فبالعقل يعي الإنسان أدواره ومسؤولياته الإنسانية، وإذا سُلِب العقل فلا يعود يدرك حقوقه ولا واجباته، عندها يُذلّ وتُمتهن كرامته. ومن المواقف السامية الكريمة لقمر العشيرة (سلام الله عليه) رفضه للذلّ والهوان، وذلك حينما وعده الشمر بن ذي الجوشن بالأمان دون ابن بنت رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فأبى (عليه السلام) ذلك، فهو نافذ البصيرة الذي ردّ على الشمر قائلًا: "لعنكَ الله ولعن أمانكَ، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له؟!"(٣). بهذه الروحية القويّة، والإرادة الصلبة يحامون عن كرامتهم، وفي هذه المدرسة المُثلى تخرّجت أجيال لن تهزّها الرياح العواتي، لذا تأتي أهمّية إقامة الشعائر الحسينية لا من أجل البكاء والعزاء فقط، بل إنّها تعبير عن الهويّة والإحساس بالانتماء إلى سيّد الشهداء (عليه السلام) ونهجه المبين، واستشفاف العِبر والدروس، وترسيخها في نفوس الموالين صغارًا وكبارًا. ....................................... (1) الميزان: ج ١٣، ص ١٥٦. (٢) العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام): ص ٢٤٢.