نِسَاءُ الأَنصَارِ بَينَ غَلَبَةِ العَاطِفَةِ وَحُكمِ العَقلِ

سماهر عبد الجبّار الخزرجيّ/ ديالى
عدد المشاهدات : 219

لا يخفى على ذي لبّ ما للمرأة من دور كبير في المجتمع الإسلامي من صيانة القِيم والمبادئ، ومشاركتها الرجل في تنشئة جيل سويّ بعيد عن الرذيلة والانحطاط، وإن كان دورها أكبر من دوره، فهي المربّية الصالحة التي إن صلحت صلح ما تفرّع منها، وإن فسدت فسد ما تفرّع منها، وقد أشاد الدين الإسلامي بدورها الكبير في هذا المجال، وأمّا ما ورد في إحدى خُطب أمير المؤمنين (عليه السلام) فيما يعدّه البعض حطًّا من قدرها ومكانتها، وانتقاصًا من شأنها حينما قال (عليه السلام): "معاشر الناس، إنّ النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول، فأمّا نقصان إيمانهنَّ فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهنَّ، وأمّا نقصان حظوظهنَّ فمواريثهن على الأنصاف من مواريث الرجال، وأمّا نقصان عقولهنَّ فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد، فاتّقوا شرار النساء، وكونوا من خيارهنَّ على حذر، ولا تطيعوهنَّ في المعروف حتى لا يطمعنَ في المنكر"(١). هنا يصف أمير المؤمنين (عليه السلام) الطبيعة التكوينية للمرأة، وغلبة العاطفة عليها في نصّ قوله (نواقص العقول)، فليس ذلك مثلبة فيها أو نقصًا بها، بل إنّها بفطرتها عاطفية تسبق العاطفة عندها العقل، فتغلب عليها العاطفة في الغضب والرضا، بخلاف الرجل، فالرجل أقدر منها على ضبط عواطفه وكبح مشاعره، فلو أنيطت بالرجل مهامّ الأمومة لما أجادها مثلما تجيدها المرأة، بل عجز عن احتواء تفاصيلها. وما جاء في قوله تعالى في حقّ أمّ موسى:﴿وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (القصص: ١٠)، فقد ربط الله على قلبها مطمئنًا لها بأنّه رادّ إليها ابنها، ولولا هذا الربط كادت تفشي السرّ وتجزع عليه بسبب هيجان العاطفة، وفيضان المشاعر، وغلبتها على العقل. لكن ما نلاحظه في واقعة الطفّ من مواقف نساء الأنصار يعجز عنه البيان، فقد شاركت المرأة الرجل في أبعاد مختلفة، من مناصرة، ومرافقة، واستنكار، وحثّ، وتحريض، وتمريض، وتضميد، وفداء، هذا الفداء الذي لم يتوجّه إليها خطابه مباشرةً، ولم يلقِ التكليف عليها حباله كأمّ موسى، بحيث كادت أن تبدي به لو لا التدخّل الإلهي في الربط على قبلها، بل نلاحظ أنّ نساء الأنصار تغلّبنَ على هذه الطبيعة التكوينية في دواخلهنَّ، وأخذنَ يحرّضنَّ أزواجهنَّ وأولادهنَّ على الدفاع عن مهجة الزهراء (عليها السلام)، ليس هذا فحسب، بل لم يرضينَ بذلك إلّا أن يرينَ رجالهنَّ قتلى بين يدي الإمام الحسين (عليه السلام)؛ لتقرّ أعينهنَّ أمام الزهراء (عليها السلام) بذلك، مواساةً لها بابنها الذبيح، وبعد انجلاء المعركة والقوم صرعى على حرّ الرمال، لم يندبنَ أولادهنَّ وأزواجهنَّ، بل رحنَ يندبنَ سيّد الشهداء (عليه السلام)، متناسيات فلذّات أكبادهنَّ وأزواجهنَّ، وكانت هذه العاطفة الموجّهة والمركّزة على رثاء ريحانة الرسول (صلّى الله عليه وآله) من أهمّ العناصر التي أسهمت في خلود ملحمة عاشوراء، واستمرار بقائها، فالعويل، والبكاء، والنياح، كان سببًا لإثارة عواطف الناس، وبيان مأساة الطفّ، ممّا أسهم في تعميق أثرها. والشواهد في ملحمة الطفّ كثيرة، منهنَّ أمّ وهب زوجة عبد الله بن عُمير الكلبيّ، التي خرجت بعده لتشجيعه على القتال والمضي قدمًا، وأمّ عبد الله بن عُمير، وهي التي كانت تشجّع ابنها على القتال‏، حتى إنّه لمّا رجع وقال لها: أرضيتِ عنّي؟ قالت: ما رضيتُ أو تُقتل بين ‏يدي الحسين (عليه السلام)(٢). وكذلك أمّ عمر بن جنادة بن الحارث السلميّ، وهو الغلام الذي قُتِل أبوه في المعركة، وخرج فردّه الحسين (عليه السلام) قائلًا: هذا غلام قد قُتِل أبوه الساعة، ولعلّ أمّه تكره خروجه، ‏فقال الغلام: أمّي أمرتني بذلك، فقاتل حتى قُتِل(٣). فأيّ فداء وإيثار بعد ذلك، وقد تغلّبنَ على تلك الجِبلّة التي جُبِلنَ عليها في غلبة العاطفة عليهنَّ، فقدّمنَ أولادهنَّ وأزواجهنَّ قرابين لتلك القضيّة المقدّسة، غير متردّدات ولا متحسّرات، فسلام عليهنَّ ما دامت السموات والأرض بما جُدنَ به من قرابين أشرق بها العالم، نورها لا يخفت بريقه ولا يبرد نجيع دمها. (١) شرح نهج البلاغة: ج ٦ - ص ٢١٤. (٢) قاموس الرجال: ج ١٠، ص ٤٤٨. (٣) أعيان الشيعة: ج ١، ص ٦٠٧.