رياض الزهراء العدد 184 ملف عاشوراء
"بَرَاعِمُ الطَّفِّ"
أيقظتني أصواتُهم وهم يتنادَون لإنزال الهوادج ونصب الخيام، وهمسةٌ من أمّي الرباب في أذن عمّتي زينب تسأل: أهو المنزل الأخير؟! لم أعلم أنّ للعبارة معنيين أو أكثر، إلّا حينما غصّت عمتي بدموعها وهي تجيب: لعلّه كذلك! فارق النوم عينيّ إلى غير رجعة، لا في تلك الليلة الكئيبة فحسب، بل في كلّ الليالي... كان صوت والدي بحنانه، وصوت أخي عليّ الأكبر بفتوّته، وصوت أخي السجّاد ببحّته، وصوت عمّي أبي الفضل بقوّته، كلّها تسكن وجداني وتوقظني... أمّا أصوات الأطفال في مخيّمنا -ولعلّني الأكبر سنًّا بينهم- فقد كانت تُشجيني وتزيد عمري وسنيني... وكيف لا تفعل! وقد خالجت جفافَ الحلق رنّةُ النحيب، فغدت الآهات تتحشرج كنُجيمَاتٍ استلّت بريقها حمرةُ المغيب... بينما تغلّب على أصوات النسوة آثار بكاءٍ مكتوم، يكبتنه خشية اللوم، ولكيلا تكون حسراتهنّ مبعث شماتة القوم، وتثبيط همم الأبطال الذين أحاطوا بهنّ إحاطة الخدر بالحرّة الأبيّة، والقلب بالمشاعر المستترة والدموع العصيّة سماء كربلاء ملبّدةٌ بغيمٍ مجنون... ولا تضيئها إلّا شمس والدي الحسين (عليه السلام). وينضوي ركب الأطفال تحت جناح سيّد الأبطال، ننتظر معًا يوم النزال... هو ذا عبد الله ابن عمّي الحسن (عليه السلام)، لا يزيد عمره على اثني عشر عامًا، يصارع الطفولة ويناوش الرجولة، ويهبّ في أثر أخيه القاسم والفتية الغرر من أبناء عمومته تارةً، ويلتحق بمخيّم النساء أخرى، مبعوثًا من عالم الأبطال ليرعى شأن الأطفال، ثم هو يلوذ بعمّه الحسين (عليه السلام)، يستضيء بشمسه ويستظلّ بفيئه، وينتظر هبوب الأقدار ليعلم أيّ الحُسْنَيَيْن سيحوز... أمّا أخي عبد الله الرضيع -أصغر الجميع- فأنين ظمئه يعتصر أفئدتنا، ونؤثر بحصّتنا من الماء، مثلما يؤثر أبطالنا أباه بحصّتهم من الحياة، وأمّا أختي رقيّة فتدور كالهدهد بين الأخبية، تلملم الأمل من خير العمل لتنثره في العيون، وتزرع في صحراء نينوى نبضها الحنون، وتفرش مصلّى أبي وتفترشه شوقًا إليه، فيقوم مصلّيًا قانتًا لله ليله، وفي حدقتيها وعلى شغاف قلبها تطبع ظلّه، فيبقى ما بينهما لا يريم... وأمّا حميدة بنت عمّي مسلم بن عقيل، فهي لم تتعافَ بعدُ من فجيعتها بوالدها الصفيّ الأمين، وها نحن نمسح على جرحها ببلسم بسملاتنا الدافئة... وأمّا أنا، عزيزة والدي الحسين، وكلّنا أعزّاؤه، فلا يعلم أحدنا كيف يكون قلبه العظيم موئلًا وصومعةً لقلوبنا، يخاطبها بنجواه وتأتمّ بهواه... أمّا أنا فآمنة، أو سَكِينة، مثلما أطلقت عليّ والدتي، وقد رأت هدوئي وسكوني، لا تحرّكني إلّا حوائج الآخرة دون الدنيا، وقد "غلب عليّ الاستغراق مع الله تعالى" مثلما قال والدي... ولعلّني أيضًا فاطمة، فكلّ بنات الحسين فواطم، وكلّ أبنائه عليّون، وكلّنا من شجرته ثمارٌ نضرةٌ بعشق الحقّ ترتوي... ولكنّ قصّة براعم الطفّ التي بدأت هنا لم ولن تنتهي، على أنّني أسرد منها ما أظنّه يكفي ليعكس على مرآة الحقيقة تلك الصور الرقيقة لبراعم الربيع حينما تقصفها رياح الغدر قبل أن تزهر، حتى إذا أزهر بعضها بُعَيد الفجر كان لمَن بعده آية، ونطق بالقَصص الحقّ ليعتبر بها أولو النهى والدراية... براعمنا تلك لم يمهلها الطغاة لتزهر، وإنّي إذ أقتصر منها على مَن ذكرتُ، مع أنّ غيرهم كثير، فلأنّ البعضَ يحكي عن الكلّ... فأمّا حميدة -التي غدا والدي لها أبًا بعد أبيها- فقد اعترضت سبيله وهو ماضٍ نحو الميدان، بعدما صار وحيدًا إلّا من رحمة الرحمن، وسألته شربة ماءٍ تأخّر بها علينا عمّي أبو الفضل، فأرخى ناظريه رأفةً بها وتأثّرًا، ووعدها خيرًا، فلمّا ألحّت بأن تذهب معه، عساها تظفر بشربةٍ مُترعة، لكي لا يمضي مثلما مضى كلّ مَن سبقه ولم يعودوا... ضمّتها عمّتي زينب موجعةً تقول: رويدكِ يا ابنتي، لقد أفجعتِ قلب سيّدنا، وما أعظمَ الفاجعة! وأمّا عبد الله الأكبر، فقد شهد الواقعة كلّها، ما بين مدٍّ وجزر، وشهد مصارع الأباة على وجه الفلاة، وتلوّى لفراق الأحبّة مثلما تلوّينا، ومضى مع مخدّرات الرسالة في ركب عمّتي زينب مثلما مضينا، وهي قد قصدت إلى الميدان لتجدّد العهد بأبي، حتى إذا هجم البغاة علينا ليحولوا بينه وبيننا، واحتوشوه دوننا يستعرضون إجرامهم في جثمانه الماثل أمامنا، أهابت الحميّة بعبد الله أن يهجم عليهم بيديه المجرّدتين إلّا من عزم براءته الممتزجة بصدق عهدِه، وهتف بالحاقد المنقضّ بحقدِه، وهو يرتمي على عمّه بجسدِه، ويتّقي السيف بنحره ويدِه: يا بن الخبيثة، أتقتل عمّي؟! فأجابه الغادر بنبلةٍ ذبحته من الوريد إلى الوريد، فقضى بين يدي والدي وأمام عيوننا الذاهلة، وحناجرنا الوالهة التي أبحّها المصاب. وأمّا عبد الله الأصغر فقد كان نصيبه من الجهاد بين يدي والده وإمامه كنصيبه من ريّ المياه وسنيّ الحياة، وقد سدّد إليه ذاك الكاهليّ السفّاح سهمه المثلّث المسموم، فنفذ في نحره الغضّ الطريّ الذي ربّما جرحته خشونة ثوبٍ لا حدّ نصلٍ غشوم، فصبغ وجه والدي ولحيته بدماء براءته، ليكون شاهدًا آخر على هول المصاب. وأمّا أخيّتي الحبيبة، رقيّة الطاهرة الصغيرة، فقد شهدت ما شهدت من مصارع الأبرار وسبي الأحرار، ومضت معنا تخوض تلك الرزايا العجيبة، حتى إذا بلغنا شام الشؤم ودخلنا خَرِبة الخراب، وهاجها الحنين لوالدي بعد طول غياب، طلبته وألحّت في الطلب، فأسكتها الزنيم يزيدُ بالطبق الأغرب، وإذا رأس والدي يلوح في أفق العشق كالسراب، فتحيطه رقيّة بكلّها، وتذوب فيه وتفترش عينيه، وتسجد في عمق ذاك المحراب، وتذهب شهيدة ذلك المصاب. وأمّا أنا... فلا زلتُ أجلس في خدري الذي انتهكه الطُلقاء فأعاده إليّ ثأر من ثأر لأبي من الأوفياء، ألتحف كساء جدّتي فاطمة (عليها السلام)، وأروي حديثها للأزمنة الماضية والقادمة، وأرسم بدموعي عزاء كربلاء، وأرفرف كتلك الحمائم البيضاء فوق ذاك القربان، أستمدّ من صوت عمّتي زينب ودعاء أخي السجّاد كلّ الأمان، وأحكي للعالم أجمعه حكاية براعم الطفّ التي قصفها الطغيان كي لا تتفتّح في ذلك الزمان، فإذا هي تزهر في كلّ مكانٍ وزمان.