عَاشُوراءُ فِي القطِيفِ

هاجر عليّ التاروتيّ/ القطيف
عدد المشاهدات : 202

لا تكاد تخلو كتب التاريخ والأنساب من ذكر قبيلة عبد القيس الربيعيّة العدنانية التي اتخذت من منطقتي القطيف وهَجَر سكنًا لها، ولم تعرِف هذه المنطقة الإسلام إلّا في صورته الشيعية النقية فمنذ أن جاء وفد عبد القيس إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وتفضّل عليهم النبيّ بأن بعث العلاء الحضرميّ إليهم، ومن هناك بدأت مسيرة التشيّع فيها، فهي لم تعرف إسلامًا آخر إلى يومنا هذا، تغيّر الحاكمون والدول وكلّ شيء، وبقي الثابت المتجذّر: التشيّع لأهل البيت (عليهم السلام). هذه القبيلة تعرّضت إلى العديد من المآسي على طول تاريخها الحافل بالأمجاد، من قتل وتشريدٍ وتهميشٍ متعمّدِ، ومن ثمّ محاولة تفكيكها إلى مسمّيات مختلفة؛ كلّ ذلك لأنّ أبناءها كانوا ولا يزالون حتى اليوم من أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، ولم يغيّروا ولاءهم طرفةَ عين على الرغم من مرور مئات السنين، حيث اتبعوا الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) ومن ثمّ كانوا السند لعليّ (عليه السلام)، وكان من أبرزهم صعصعة بن صوحان العبديّ وإخوته، مثلما التحق بعضهم بركب الشهداء في كربلاء، حيث استُشهد من العبديّين مع الإمام الحسين (عليه السلام) ستّة رجال. ومن نصرة الحسين (عليه السلام) إلى ندبته ورثائه تقلّبت أجيال هذه المنطقة في الولاء، ولو خصصنا مجالس الحسين (عليه السلام) بالذكر فيمكن أن نقول إنها عريقة في هذه المنطقة بعراقة ولائها لأهل البيت (عليهم السلام)، فلم تنقطع مجالس العزاء طوال تاريخ القطيف مع كلّ التضييقات والظروف الصعبة التي عاشتها. فمن مجالس عاشوراء النسوية خاصّة بين القديم والحاضر حدّثتنا "أمّ محمود" من القطيف وتذكر شيئًا من تاريخ هذه المجالس في القطيف. فتقول: قبل ما يقارب (٤٠) عامًا، ومع اقتراب شهر محرّم كانت الأسواق تتّشح بالسواد وكذلك تقوم النساء بشراء الملابس السوداء، إذ يُعدّ ذلك من آداب شهر محرّم الحرام، وشراء لوازم المجالس الحسينية، فكنّ يلبسنَ السواد حتى التاسع من شهر ربيع الأول. وتضيف: كان من الاستعدادات النفسية للتهيّؤ لموسم العزاء معرفة أسماء المآتم وأماكنها "العزايا"، وهذا يمكّن النساء وأطفالهنَّ من ترتيب جدول تنقلهنَّ في الموسم العاشورائي بين العزايا. هذه المجالس عبارة عن احتواء ولائي نقي لنساء الحيّ وأطفالهنّ، حيث ينهل كلٌّ بقدره من نمير الولاء لمحمّد وآله (صلّى الله عليه وآله)، والبراءة من أعدائهم، فكانت النساء يخرجنَ من مجلس ويدخلنَ في آخر، ينتقلنَ بين "العزايا" في موسم عاشوراء منذ الصباح الباكر حتى وقت متأخّر من الليل. وكانت الشوارع لا تهدأ أبدًا، فترى الرجال والنساء والأطفال في كلّ شارع، ولم تكن الأزقة كئيبة مثلما هي الآن، ولا يكاد ينتهي بنا الصباح حتى نستعدّ للذهاب إلى مكان طبخ (عيش الحسين)، وتسمّى (بركة الحسين)، والطبخة المشهورة في محرّم هي (المحموص)، وهي عبارة عن البصل المحمّص حتى الاسوداد، ثم يضاف إليه أيّ صنف من اللحوم والرز ويكبس، وما تزال هذه الطبخة موسومة بمحرّم حتى اليوم. وكان من ضمن التحضيرات لعشرة محرّم، تجهيز القهوة أيضًا، حيث تقوم جدّتي (رحمها الله) بتحميص القهوة قبل الموسم، وتستمرّ في التحميص خلال أيام العشرة الأولى من المحرّم، حتى تضمن عدم نفادها، وبعدها تقوم النساء بطحنها. كان دخل هذه المجالس يعتمد على مساهمة أصحاب المأتم ذاتهم، وعلى نذور الأهالي وتبرّعاتهم طوال السنة، وتزداد هذه النذور قبل شهر محرّم بشهر تقريبًا، وتُصرف على احتياجات المأتم نفسه، وأجور القارئات من النساء، والقارئة في القطيف تُسمّى (مُلّاية)، وكلّ ملاية لها أجرها الخاصّ، وتُوزّع منه على مَن يرافقها من القارئات، وبالطبع كان الأجر بسيطًا حينها، وكان من عادة المجالس بالمنطقة أن تحافظ على الملّاية ثابتة عبر السنين، ولا تتغيّر حتى يتوفّاها الله. في القطيف كانت تبدأ المآتم النسوية بقراءة خفيفة بطريقة السرد لقصّة اليوم العاشر مجزّأةً على عشرة أيام بدءًا من خروج الإمام الحسين (عليه السلام) من مكّة حتى وصوله إلى كربلاء العراق، انتهاءً باستشهاده، معتمدة في قراءة السيرة على كتاب (المُنتخب) للطريحي، ثم تُقرأ المصيبة وتختتم بـ (الدور)، وتُقرأ فيه قصائد عزائية منظومة تشرح المصائب بصورة حوارية مفصّلة تعتمد على كتاب (الجمرات الودّية) للملّا البحرينيّ عطية الجمريّ، وبعض الكتب الصادرة عن الملالي العراقيين، وبعض المخطوطات لبعض الشاعرات القطيفيات، تُقرأ هذه القصائد (اللطميات) بنغمات حزينة، يجتمع فيها النساء على شكل حلقة في وسط المأتم، وترتفع حرارة المكان بمستوى حرارة اللطم متناغمةً مع كلمات القصيدة والدوران في الحلقة تمثيلًا لحلقة الحرب، واستحضار الأسى على القتلى في أثناء المعركة. أمّا ما يجري اليوم، فتحدّثنا زينب الصفّار عن التطوّر الذي حصل في المجالس النسوية في القطيف، فتقول: مع احتفاظ مجالس النساء بالروح الولائية، والنكهة الحزينة في أيام عاشوراء التي توارثناها من الجيل السابق، إلّا أنّ تغيّرًا وتطوّرًا حصل في المحتوى المطروح في المجالس، فقد دخلت المحاضرات والكلمات القيّمة للمنبر النسوي عبر مجموعة من الفاضلات اللاتي درسنَ العلوم الدينية، فأصبح دور الملّاية (القارئة) يقتصر على تلاوة المصيبة، بينما تقوم الأستاذة الخطيبة بطرح موضوع يتناسب مع الموسم العاشورائي. مثلما حصل تطوّر في مستوى القصيدة الحسينية والعزاء، فبعد أنْ كانت تقتصر على البُعد العاطفيّ الذي يستثير المشاعر، أصبحت القصيدة اليوم تمتلئ بالقيم الحسينية، والزخم الولائي، والوعي لقضايا الأمّة، بخاصّة مع ظهور القارئات والشاعرات والخطيبات المتمكّنات من النساء. وتضيف زينب: أصبحت مجالس النساء في القطيف منافِسة لمجالس الرجال من حيث المحتوى الخطابيّ والعزائيّ، بعدما كانت مجالس الرجال تتميّز بالطرح المعرفيّ في السابق دون مجالس النساء، فمجالس النساء في القطيف اليوم أصبحت مقصدًا للشابّات المواليات، ينهلنَ منها ما يعبّئ وعيهنَّ وفكرهنَّ وعاطفتهنَّ، إنّها تجمع بين عبق الولاية في الماضي وعمق الوعي في الحاضر. تجدر الإشارة إلى أنّ المجالس النسوية في القطيف من حيث الإعداد والتنظيم تقوم على جهود ملاك نسوي متطوّع لجميع الخدمات، من تهيئة المكان، وتنظيفه، وطبخ البركة، وما شابه. وما تزال عاشوراء في القطيف تجديدًا لبيعة الولاء العريقة من أهالي هذا البلد الموالي، تحكيها كلّ زوايا القطيف بالسواد الذي تتّشح به جدران المنازل، والرايات التي تعلوها، والمضايف المنتشرة في أحيائها، وأصوات القرّاء التي تمتزج بنسائمها، عاشوراء في القطيف من الماضي إلى الحاضر غرس ولاء ينمو ويزداد تجذّرًا مع الأيام.