قَبَسَاتٌ نُورَانِيَّةٌ مِن سِجنِ الإمامِ الكَاظِم (عليه السلام)

تحقيق: ليلى إبراهيم الهر
عدد المشاهدات : 569

هو صاحب السجدة الطويلة التي لا تُعطي للزمن معنى، وتحمل جبال العذاب والاضطهاد, وعلى أعتاب صبره وتحمّله ورث الشجاعة القاهرة للظلم والعدوان بتحدي بني العباس وكشف ألاعيبهم وردِّها بزهدٍ وعبادةٍ وصبرٍ وقوةٍ تحملٍ وحبٍّ لله تعالى وإيمانٍ به، فهي أقوى أسلحته للانتصار عليهم.. كلّما مرّت ذكرى استشهاد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) هيّجت أحزاننا وأنين قلوبنا على ما مرّ عليه من مصائب، وتذكرنا القصص والمآسي التي مرّ بها إخواننا وأبناؤنا في عراقنا الجريح في ظلم السجون التي لا يعلمها إلا الله تعالى لذلك التقينا بعدد من الذين جعلوا مصيبة الإمام (عليه السلام) وما مرّ عليه نصب أعينهم ومناراً لهم في تلك الظروف. توجهنا بالسؤال إلى حضرة الشيخ (علي الفتلاوي) رئيس قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة: كيف استلهمتم من مظلومية الإمام (عليه السلام) في حياتكم العملية، وخاصة عن طريق تجربتكم المريرة في زمن اللانظام المقبور؟ لاشك أن أهل البيت (عليهم السلام)هم الأسوة والقدوة في كلّ مجالات الحياة سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو علمية أو عملية، وحيث إن إمامنا موسى بن جعفر (عليه السلام) رمز السجناء المجاهدين والمكافحين ضد الطغاة، فقد ذاق مرارة السجن بسبب النهج والمبدأ الإلهي، فلذا يجد السجين السياسي أو سجناء الرأي كما يسمونهم عزاءهم في صبر الإمام الكاظم (عليه السلام) ومكافحته فمنه تعلمنا رفض الأفكار والأنظمة الطاغوتية، ومنه تعلمنا أن نكون ذوي عطاء ونحن في داخل السجن ومنه تعلمنا أن نستثمر وقت السجن للعبادة والاتصال مع الله تعالى، ومنه تعلمنا أن لا نساوم على مبادئنا مهما كانت المغريات، ومنه تعلمنا الثبات على دين الله تعالى إلى أن يحين الأجل؛ لأن الإمام (عليه السلام) مات في السجن ولم يبتعد قيد أنملة عن ربه (عز وجل). بمَن استمديتم القوة لمواصلة المسيرة، وهل وظفتم تلك التجربة في عملكم الحالي؟ أنا أعتقد أن ما قدّمناه هو قربة إلى الله تعالى لا نريد بذلك إلا وجهه (عز وجل)، وأن ما وقع علينا من ظلم وما حصل منّا من رفض لهذا الظلم هو من الصفحات البيضاء في حياتنا بل أنصعهن بياضاً، فلذا لابدّ من الحفاظ على هذه الصفحة البيضاء وذلك عن طريق مواصلة المسيرة التي ابتدأناها وسجنّا من أجلها، فكلما جاءت المغريات وضغطت أجبناها لا يمكن أن نضحي بما مضى من حسنات وموقف صحيح وسليم من أجل الدنيا، وإذا كان لابدّ من الاستمرار فينبغي الاستمرار والاستزادة لا التراجع والنكوص، فصارت هذه الفكرة هي الدافع الذي يدفعنا لتقديم المزيد خدمة للمذهب والدين. كانت محطتنا الثانية قسم الشؤون الدينية في العتبة العباسية المقدسة، وتوجهنا إلى حضرة جناب الشيخ صلاح الخفاجي (دام توفيقه)/ رئيس قسم الشؤون الدينية بالسؤال الآتي: كيف استطعتم تجاوز تلك المدّة العصيبة، وهل هناك دروس نتّعظ بها من مظلومية الإمام (عليه السلام)؟ إن الإنسان في ظرف كهذا عليه بالصبر والتحمل في سبيل الله (عز وجل)، وأن يضحّي بالغالي والنفيس من أجل الحفاظ على المبدأ الذي خلق من أجله. 1. الإمام (عليه السلام) وهو في السجن لم يتوقف عن الدعوة إلى الله (عز وجل) فلنأخذ العبرة من الإمام (عليه السلام) ونكون دعاة إلى الله (عز وجل) بأنواع الظروف شتى التي يمرّ بها المؤمن وأن لا يُصاب بالخيبة في حالة التضييق عليه. 2. الإمام (عليه السلام) في السجن كان يشكر الله على كلّ حال ويعدّ السجن من نعم الله (عز وجل) فإننا نفهم من الإمام (عليه السلام) الإشارة إلى الذي ينبغي على العبد المؤمن أن يكون فيه، وهو التسليم المطلق إلى أمر الله (عز وجل) في أي حال من الأحوال. 3. السرية والكتمان في العمل إذ لولا قيام بعض أصحاب الإمام (عليه السلام) بالإشارة إلى نشاط الإمام (عليه السلام) وما يقوم به من عمل لما وصل الخبر إلى هارون العباسي حينما جاء أحدهم وقال: خليفتان في آن واحد، مما دفع هارون إلى اعتقال الإمام (عليه السلام). 4. الإمام (عليه السلام) يؤدي دوره الوجودي حتى لو لم يكن في أوساط المجتمع. وكان سؤالنا إلى حضرة الاستاذ (علي كاظم سلطان) رئيس قسم الإعلام في العتبة الحسينية المقدسة: كيف وظفتم الظرف الصعب في تلك المدة لصالحكم؟ إن تجربة السجن في زنزانات النظام البعثي الجائر من أعظم التجارب التي من الممكن أن تمرّ على الإنسان فهي تجربة مغمسة بالمعاناة، وهذه المعاناة تثبت التجربة رسوخاً، فهي كمواد البناء المثبتة للحجر والطابوق، ومن أهم الأمور التي يمكن للمرء أن يتحسسها بل يعيشها هي مسألة الانقطاع إلى الله تعالى، وعن الأهل والأحبة ولا يستطيع أن يخلّصه من هذه المحنة سوى القوي العزيز؛ لذلك كان الجو العبادي الخالص من أهم ميزات هذه التجربة، فقد كان هناك استغلال الوقت للعبادة وحفظ القرآن والتداول الثقافي في الزنزانة؛ لأنه كما هو معلوم أن نوعية المعتقلين من الطبقات المثقفة وبعضها ذات درجات علمية أكاديمية ودرجات علمية حوزوية؛ لذلك وعلى الرغم من المراقبة وقائمة الممنوعات التي تصل حتى إلى منع النطق بالكلام ومنع الورقة والقلم ومنع الجلوس مع الآخر للتحدث كانت هناك حركة ثقافية روحية بين الإخوة السجناء، بحيث كنّا في بعض الأحيان نبحث عن وقت فراغ ولا نجد. والأمر الآخر المهم هو حالة التكافل والتراحم بين الإخوة فهم كانوا يجسدون أخلاق الأئمة تجسيداً عمليّاً فإذا مرض احدنا شاركه الجميع في ألمه فكنّا نتراحم فيما بيننا بتجسيد واضح للحديث الشريف "مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".(1) وماذا استفدتم من تلك التجربة بعملكم الحالي؟ ما عكسه السجن على نفوسنا بعد انتهاء هذه التجربة هو استيعاب الأزمان واستيعاب الآخرين؛ لأنه تولّد لديهم صبر وحكمة في معالجة الأمور، فهم بصورة عامة ليسوا اندفاعيين عاطفيين بل لهم ميزان يزنون به الأمور، والأمر الثاني هو ميزان القرب والبعد من الله تعالى فمَن كان قريباً لهم فهو أكيد قريب من الله (عز وجل) ومن كان بعيداً عنهم فبسبب بعده عن الله تعالى، والأمر الأخير الذي أحب أن أذكره هو الفهم الداعي للأمور والفتن التي تمرّ بأناس لم تؤثر فيهم؛ لأنهم تعلّموا أسس صحيحة لاتّباع طريق الأئمة وطريق المرجعية المباركة. ومن ثمّ وجهنا السؤال إلى جناب السيد عدنان جلوخان (دام توفيقه)/ مسؤول شعبة الشؤون الاجتماعية: تعرّض الإمام الكاظم (عليه السلام) إلى السجن لمدةٍ طويلة حيث قال: "اللهم إنك تعلم أنني كنت أسألك أن تفرغني لعبادتك، اللهم وقد فعلت فلك الحمد"(2)، ماذا تمثل لكم هذه المقولة للإمام (عليه السلام)؟ بسمه تعالى لاشك أن لكلّ مأموم أماماً يقتدي به في كلّ ما يتعلق بحياته العلمية والعملية والسلوك بكلّ ما لهذه الكلمات من معنى، وأهم كلّ ذلك هي قضية الارتباط بالله (عزّ وجل)؛ لأجل الارتقاء إلى مراتب سامية من القرب الإلهي، ولا يكون ذلك إلّا بالعمل الذي يقدّمه الإنسان تجاه ربّه سبحانه، فضلاً عن الابتلاءات التي يُبتلى بها بنو البشر فتكون إمّا كفارة لذنوبه أو رفعاً لمنزلته، فإمامنا موسى بن جعفر (عليه السلام) قد ابتُلي بابتلاءات عظيمة وآلام مريرة، ومرّ بظروف قاسية وضغوطات سياسية كبيرة لكنه صبر على كلّ ذلك فامتاز بلقب كاظِم الغيظ واختص به، ومن جملة ما ابتلي به هو السجن وأيّ سجن؟! إنّ ذلك السجن لشدّته وظلمته بحيث كان طامورة لا يُعرف فيه الليل من النهار، حوّله الإمام (عليه السلام) إلى ساحة قدسية عبادية يتوجه منها إلى ربّه ويشكره على ذلك باعتبارها نعمة من نعمه سبحانه، وكلّ نعمة تستحق الشكر ومن ذلك نتعلم ما يأتي: 1. الصبر على البلاء والمحن. 2. تحويل الألم إلى أمل. 3. الثقة بالله (عزّ وجل) بأنه سيأخذ الحق له. 4. زوال الظالم وظلمه مهما طال عليه الزمن، فيُروى أنه (عليه السلام) أرسل رسالة إلى هارون العباسي قال فيها: "إنه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلا انقضى عنك معه يوم من الرخاء، حتى نقضي جميعا إلى يوم ليس له انقضاء يخسر فيه المبطلون".(3) ونحن تعلمنا من إمامنا الصبر على البلاء ومواجهة الصعوبات بقوة وكنّا نتخذ من السجن مدرسةً يتعلم كلّ منّا من الآخر، وكنت دائماً استلهم من قصة نبيّ الله يوسف (عليه السلام) العِبر حينما تحدث ربّ العزة عن لسانه حيث قال: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ)/ (يوسف:33). إنّ المحن والضغوط التي يمرّ بها الإنسان المؤمن لها الأثر المحسوس في نفسيته والاستمرار بحياته وتأثيره في المجتمع, وهذا يعتمد على قوة الإيمان والتمسك بخط أهل البيت (عليهم السلام)والتصدي للعقبات التي تمرّ بحياته عن طريق الاستلهام من صبرهم وصمودهم والتحلي بأخلاقهم الحميدة وأخذ الدروس والعِبر منهم. ...................................... (1) ميزان الحكمة: ج4، ص93. (2) بحار الأنوار: ج48، ص108. (3) بحار الأنوار: ج48، ص148.